ولقد ردّ كثير من العلماء والأئمة والمفسرين واللغويين على هذه الإثارات مبينين أن حمزة بن حبيب لم يقرأها لحناً وإنما نقلها مشافهة نقلاً ثَبُت تواتره. ومن هؤلاء: الفخر الرازي والآلوسي وصاحب المنار، ونثبت هنا كلمة الآلوسي، يقول: "وقرأ حمزة بالجر، وخرجت في المشهور على العطف على الضمير المجرور، وضعّف ذلك أكثر النحويين بأن الضمير المجرور كبعض الكلمة لشدة اتصاله بها، فكما لا يعطف على جزء الكلمة لا يعطف عليه.
وأول من شنّع على حمزة في هذه القراءة أبو العباس المبرد حتى قال: لا تحل القراءة بها، وتبعه في ذلك جماعة -منهم ابن عطية-، وزعم أنه يردّها وجهان: أحدهما أن ذكر أن الأرحام مما يتساءل بها، وهذا مما يغضّ من الفصاحة، والثاني أن في ذكرها على ذلك تقرير التساؤل بها، والقسم بحرمتها، والحديث الصحيح يردّ ذلك، فقد أخرج الشيخان عنه صلى الله تعالى عليه وسلم: (من كان حالفاً فليحلف بالله تعالى أو ليصمت).
وأنت تعلم أن حمزة لم يقرأ كذلك من نفسه ولكن أخذ ذلك بل جميع القرآن عن سليمان بن مهران الأعمش، والإمام بن أعين، ومحمد بن أبي ليلى، وجعفر بن محمد الصادق -وكان صالحاً ورعاً ثقة في الحديث- من الطبقة الثالثة.
وقد قال الإمام أبو حنيفة والثوري ويحيى بن آدم في حقه: غلب حمزة الناس على القراءة والفرائض، وأخذ عنه جماعة وتلمذوا عليه، منهم إمام الكوفة -قراءةً وعربيةً- أبو الحسن الكسائي، وهو أحد القراء السبعة الذين قال أساطين الدين: إن قراءتهم متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع هذا لم يقرأ بذلك وحده بل قرأ به جماعة من غير السبعة كابن مسعود وابن عباس وإبراهيم النخعي والحسن البصري وقتادة، ومجاهد وغيرهم -كما نقله ابن يعيش- فالتشنيع على هذا الإمام في غاية الشناعة ونهاية الجسارة والبشاعة، وربما يخشى من الكفر، وما ذكر من امتناع العطف على الضمير المجرور وهو مذهب البصريين ولسنا متعبدين باتباعهم. وقد أطال أبو حيان في "البحر" الكلام في الرد عليهم، وادعى أن ما ذهبوا إليه غير صحيح، بل الصحيح ما ذهب إليه الكوفيون من الجواز، وورد ذلك في لسان العرب نثراً ونظماً، وإلى ذلك ذهب ابن مالك، وحديث أن ذكر الأرحام -حينئذ لا معنى له في الحض على تقوى الله تعالى- ساقط من القول لأن التقوى إن أريد بها تقوى خاصة -وهي التي في حقوق العباد التي من جملتها صلة الرحم- فالتساؤل بالأرحام مما يقتضيه بلا ريب، وإن أريد الأعم فلدخوله فيها. وأما شبهة أن في ذكرها تقرير التساؤل بها، والقسم بحرمتها، والحديث يرد ذلك للنهي فيه عن الحلف بغير الله تعالى، فقد قيل في جوابها: لا نسلّم أن الحلف بغير الله تعالى مطلقاً منهي عنه، بل المنهي عنه ما كان مع اعتقاد وجوب البر، وأما الحلف على سبيل التأكيد مثلاً فممّا لا بأس به، ففي الخبر: (أفلح وأبيه إن صدق)، وقد ذكر بعضهم أن قول الشخص الآخر: أسألك بالرحم أن تفعل كذا ليس الغرض منه سوى الاستعطاف. وليس هو كقول القائل: والرحم لأفعلنّ كذا، ولقد فعلت كذا. فلا يكون متعلق النهي في شيء"([5]). وأما صاحب المنار فلقد أطال النفس، وصال وجال([6])، ونقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية أن السؤال بالرحم ليس قسماً واستشهد على ذلك بشواهد كثيرة.
قراءة حمزة -إذن- مستقيمة من حيث اللغة ومن حيث المعنى، من الوجهة النحوية والوجهة البلاغية، فقراءة النصب تحث على صلة الأرحام وتحذّر من قطعها؛ إذ أكثر اللغويين على أن التقدير: واتقوا الله، واتقوا الأرحام. وليس معنى اتقائها إلا صلتها وعدم قطعها والإحسان إليها. وأما قراءة الجر ففيها رفعٌ من شأن الرحم وتذكير لهم بصنيعهم إذ كانوا في عظائم أمورهم يتساءلون بالأرحام. "وقد ثبت عن علي كرم الله وجهه أن ابن أخيه عبد الله بن جعفر كان إذا سأله بحق جعفر أعطاه. وليس هذا من باب الأقسام، فإن الأقسام بغير جعفر أعظم، بل من باب حق الرحم؛ لأن حق الله إنما وجب بسبب جعفر، وجعفر حقه على علي"([7]).
- ونختم بهذه الآية الكريمة: (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون): قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وحفص بالإضافة، وقرأ الباقون بالتنوين ونصب (نوره). وربما يظن لأول وهلة أن القراءتين شيء واحد، إلا أن من يدرك أسرار العربية في إحكامها وأحكامها ودقتها تتشوّف نفسه إلى ما تعطيه هذه الحركات من فروق بين المعاني ناتجة عن الفروق بين الألفاظ.
إن من روعة العربية أنها تفرق بين المعنيين بالحركة تارة فيقولون: ضُحْكَة وضُحَكَة، فبإسكان الحاء هو الذي يُضحَك منه, وبفتحها هو الذي يَضحك من غيره. وقد يكون التفريق بحرف من حروف المعاني كتفريقهم بين (اللام) و(إلى)، فشتّان بين قولنا: أحمد أحبّ لأبيه. و: أحمد أحبّ إلى أبيه. قال تعالى: (إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منّا) (يوسف:
.
وقد يكون التفريق بحرف من حروف المعجم فقد فرّقوا بين النضج والنضح، والقبص والقبض، وقد يكون التفريق بالتنوين. يقال: هذا ضاربُ زيدٍ. وضاربٌ زيداً، والأول يفيد تحقق الضرب ووقوعه. قال ابن قتيبة: "ولها الإعراب الذي جعله الله وشياً لكلامها وحلية لنظامها، وفارقاً في بعض الأحوال بين الكلامين المتكافئين المختلفين كالفاعل والمفعول لا يفرق بينهما إذا تساوت حالاهما في إمكان الفعل أن يكون لكل واحد منهما بالإعراب، ولو أن قائلاً قال: هذا قاتلٌ أخي -بالتنوين-، وقال آخر: هذا قاتلُ أخي -بالإضافة-؛ لدلّ التنوين على أنه لم يقتله، ودلّ حذف التنوين على أنه قد قتله"([8]).
وعلى هذا يجب أن نفهم الآية الكريمة، فقراءة الإضافة ترشد إلى أن الله تبارك وتعالى قد أتم نوره، وقد يكون هذا الإتمام بإكمال الدين، وقد يكون بنصر أهله والتمكين لهم ودحر أعدائهم.
قراءة الإضافة -إذن- فيها المنة الإلهية على نبيه والمؤمنين معه بما أكرمهم الله به من إتمام هذا النور، ولكن القرآن الكريم ليس لهذه الفئة وحدها، بل هو للمسلمين جميعاً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فإذا كانت قراءة الإضافة فيها منّة إلهية، فإن قراءة التنوين فيها عدة ربانية ووعد الله لا يتخلف، فيها طمأنينة للمؤمنين عندما تَدْلَهِمُّ ظلمة، ويُوحش ليل، ويستنسر بغاث، بأن حالاً مثل هذا لن يدوم أبداً، ولا بد أن يتم الله نوره كما أتمه من قبل (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكننّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً) (النور: 55). فما أسدّ كلاًّ من القراءتين في معناها، وما أصدق كل قراءة فيما ترشد إليه!
--------------------------------------------------------------------------------
الهوامش:
[1] الشيخ زاده: محمد عبد الوهاب بن عبد الكريم (ت 975هـ( 1568م)، حاشية زاده على البيضاوي (أربعة أجزاء)، دار الطباعة الباهرة ببولاق مصر، 1263هـ، جـ3، ص 42.
[2] يمكن أن تكون هذه الآية الكريمة مثالاً لاختلاف الأحرف من حيث التبديل والتغيير.
[3] أبوحيان: البحر المحيط: جـ2، ص2.
[4] الطبري: جامع البيان جـ4، ص 152.
[5] الآلوسي: روح المعاني: 4/ 184-185.
[6] محمد رشيد رضا: تفسير القرآن الحكيم الشهير بتفسير المنار، 12 جزءاً، مكتبة القاهرة، جـ4، ص332، وسيشار إليه عند وروده هكذا: رشيد رضا: المنار.
[7] رشيد رضا: المنار جـ4/ 332.
[8] ابن قتيبة: أبو محمد عبد الله بن مسلم (ت276هـ - 889م) تأويل مشكل القرآن، تحقيق السيد أحمد صقر، دار إحياء الكتب العربية ص11.
اللهمّ بارك فيمن قامت بنقله ومن قامت بنشره .... آمين