نور الهدى
هلا ومرحبا فى منتدى (نور الهدى)
نور الهدى
هلا ومرحبا فى منتدى (نور الهدى)
نور الهدى
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


أهلا وسهلا بك يا زائر في منتدى نور الهدى
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول
إقراء القران من هنا
اقراء القران من هنا
الاذكاراســتغفر الله .. اســتغفر الله .. اســتغفر الله ۞ ســبحان اللــه وبـحـمـده ، ســبحان اللــه الـعـظيـم ۞ سـبـحان اللــه ، والـحمـدللـه ، ولاإله الى الله ، والله أكـبر ۞ اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل ابراهيم إنك حميد مجيد , اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل ابراهيم إنك حميد مجيد ۞ سـبحان اللــه وبـحمـده ، عــدد خـلقـه ، ورضـا نـفـسه ، وزنة عـرشه ، ومداد كـلماته ۞ لا إله إلا الله العظيم الحليم , لا إله إلا الله رب العرش العظيم , لا إله إلا الله رب السموات , ورب الأرض , ورب العرش الكريم ۞ لاحــول ولا قــوة إلى باللـــه

بحـث
 
 

نتائج البحث
 
Rechercher بحث متقدم
المواضيع الأخيرة
» حكم وفوائد صيام الست من شوال
تفسير اضواء البيان فى ايضاح القران بالقران - صفحة 2 Emptyالإثنين سبتمبر 05, 2011 3:13 am من طرف نور الهدى

» وقفات فى استقبال شهر رمضان
تفسير اضواء البيان فى ايضاح القران بالقران - صفحة 2 Emptyالجمعة يوليو 22, 2011 5:23 am من طرف نور الهدى

» بسبوسه رائعه
تفسير اضواء البيان فى ايضاح القران بالقران - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 12, 2011 5:27 am من طرف نور الهدى

» لمحه من حياه بنات رسول الله
تفسير اضواء البيان فى ايضاح القران بالقران - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 12, 2011 5:17 am من طرف نور الهدى

» من يحمل هم الدين
تفسير اضواء البيان فى ايضاح القران بالقران - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 12, 2011 5:07 am من طرف نور الهدى

» لا للاحتفال براس السنه
تفسير اضواء البيان فى ايضاح القران بالقران - صفحة 2 Emptyالخميس ديسمبر 30, 2010 5:35 am من طرف ام عائشه

» حكم التهئنة بعيد الكريسماس
تفسير اضواء البيان فى ايضاح القران بالقران - صفحة 2 Emptyالثلاثاء ديسمبر 28, 2010 4:23 am من طرف ام عائشه

» تعالو شاهدو قريه اهلكت عن بكرة ابيها في ايطاليا
تفسير اضواء البيان فى ايضاح القران بالقران - صفحة 2 Emptyالسبت نوفمبر 27, 2010 9:11 am من طرف نور

» كلمة مبروك ليس فيها شي........فتوي للشيخ ابن عثيمين
تفسير اضواء البيان فى ايضاح القران بالقران - صفحة 2 Emptyالخميس نوفمبر 25, 2010 11:20 am من طرف سوسو

ازرار التصفُّح
 البوابة
 الصفحة الرئيسية
 قائمة الاعضاء
 البيانات الشخصية
 س .و .ج
 ابحـث
منتدى
التبادل الاعلاني
احداث منتدى مجاني
مايو 2024
الإثنينالثلاثاءالأربعاءالخميسالجمعةالسبتالأحد
  12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
2728293031  
اليوميةاليومية
ازرار التصفُّح
 البوابة
 الصفحة الرئيسية
 قائمة الاعضاء
 البيانات الشخصية
 س .و .ج
 ابحـث

 

 تفسير اضواء البيان فى ايضاح القران بالقران

اذهب الى الأسفل 
انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2
كاتب الموضوعرسالة
الهدى

الهدى


عدد المساهمات : 326
التميز : 1
تاريخ التسجيل : 14/10/2009

تفسير اضواء البيان فى ايضاح القران بالقران - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: تفسير اضواء البيان فى ايضاح القران بالقران   تفسير اضواء البيان فى ايضاح القران بالقران - صفحة 2 Emptyالإثنين يناير 11, 2010 3:52 am

تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :



الجزء الأول من كتاب أضواء البيان


تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن


تأليف


الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الجنكي الشنقيطي


المتوفى سنة 1393هـ




تفسير سورة الفاتحة


‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏}‏


لم يذكر لحمده هنا ظرفًا مكانيًا ولا زمانيًا‏.‏ وذكر في سورة الروم أن من ظروفه المكانية‏:‏ السماوات والأرض في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ‏}‏، وذكر في سورة القصص أن من ظروفه الزمانية‏:‏ الدنيا والآخرة في قوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ‏}‏، وقال في أول سورة سبأ‏:‏ ‏{‏وَلَهُ الْحَمْدُ فِى الاْخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ‏}‏ والألف واللام في ‏{‏الْحَمْدُ‏}‏ لاستغراق جميع المحامد‏.‏ وهو ثناء أثنى به تعالى? على نفسه وفي ضمْنه أمَرَ عباده أن يثنوا عليه به‏.‏


وقوله تعالى?‏:‏ ‏{‏رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ لم يبين هنا ما العالمون، وبين ذلك في موضع آخر بقوله‏:‏ ‏{‏قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا‏}‏


قال بعض العلماء‏:‏ اشتقاق العالم من العلامة، لأن وجود العالم علامة لا شك فيها على وجود خالقه متصفًا بصفات الكمال والجلال، قال تعالى?‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي خَلْقِ السموات والأرض لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ‏}‏، والآية في اللغة‏:‏ العلامة السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ‏.‏




‏{‏الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏}‏


هما وصفان للَّه تعالى?، واسمان من أسمائه الحسنى، مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة، والرحم?ن أشد مبالغة من الرحيم، لأن الرحم?ن هو ذو الرحمة الشاملة لجميع الخلائق في الدنيا، وللمؤمنين في الآخرة، و الرحيم ذو الرحمة للمؤمنين يوم القيامة‏.‏ وعلى هذا أكثر العلماء‏.‏ وفي كلام ابن جرير ما يفهم منه حكاية الاتفاق على هذا‏.‏ وفي تفسير بعض السلف ما يدل عليه، كما قاله ابن كثير، ويدل له الأثر المروي عن عيسى كما ذكره ابن كثير وغيره أنه قال عليه وعلى نبيّنا الصلاة والسلام‏:‏ الرَّحْم?نِ رحم?ن الدنيا والآخرة والرَّحِيم رحيم الآخرة‏.‏ وقد أشار تعالى? إلى هذا الذي ذكرنا حيث قال‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏، فذكر الاستواء باسمه الرحم?ن ليعم جميع خلقه برحمته‏.‏ قاله ابن كثير‏.‏ ومثله قوله تعالى?‏:‏ ‏{‏أَوَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ‏}‏؛ أي‏:‏ ومن رحمانيته‏:‏ لطفه بالطير، وإمساكه إياها صافات وقابضات في جو السماء‏.‏ ومن أظهر الأدلة في ذلك قوله تعالى?‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا‏}‏ فخصهم باسمه الرحيم‏.‏ فإن قيل‏:‏ كيف يمكن الجمع بين ما قررتم، وبين ما جاء في الدعاء المأثور من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏رحم?ن الدنيا والآخرة ورحيمهما‏"‏‏.‏


‏{‏مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏}‏


لم يبينه هنا، وبينه في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ‏}‏‏.‏


والمراد بالدين في الآية الجزاء‏.‏ ومنه قوله تعالى?‏:‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ يُوَفّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ‏}‏، أي جزاء أعمالهم بالعدل‏.‏


‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ‏}‏


أشار في هذه الآية الكريمة إلى تحقيق معنى لا إل?ه إلا اللَّه؛ لأن معناها مركب من أمرين‏:‏ نفي وإثبات‏.‏ فالنفي‏:‏ خلع جميع المعبودات غير اللَّه تعالى? في جميع أنواع العبادات، والإثبات‏:‏ إفراد ربّ السماوات والأرض وحده بجميع أنواع العبادات على الوجه المشروع‏.‏ وقد أشار إلى النفي من لا إل?ه إلا اللَّه بتقديم المعمول الذي هو ‏{‏إِيَّاكَ‏}‏ وقد تقرر في الأصول، في مبحث دليل الخطاب الذي هو مفهوم المخالفة‏.‏ وفي المعاني في مبحث القصر‏:‏ أن تقديم المعمول من صيغ الحصر‏.‏ وأشار إلى الإثبات منها بقوله‏:‏ ‏{‏نَعْبُدُ‏}‏‏.‏


وقد بيّن معناها المشار إليه هنا مفصلاً في آيات أُخر كقوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ‏}‏، فصرح بالإثبات منها بقوله‏:‏ ‏{‏اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ‏}‏، وصرح بالنفي منها في آخر الآية الكريمة بقوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏، وكقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ‏}‏، فصرح بالإثبات بقوله‏:‏ ‏{‏أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ‏}‏ وبالنفي بقوله‏:‏ ‏{‏وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ‏}‏، وكقوله‏:‏ ‏{‏فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ‏}‏، فصرح بالنفي منها بقوله‏:‏ ‏{‏فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ‏}‏، وبالإثبات بقوله‏:‏ ‏{‏وَيُؤْمِن بِاللَّهِ‏}‏؛ وكقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي‏}‏، وكقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ‏}‏؛ إلى غير ذلك من الآيات‏.‏


‏{‏وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ أي لا نطلب العون إلا منك وحدك؛ لأن الأمر كله بيدك وحدك لا يملك أحد منه معك مثقال ذرة‏.‏ وإتيانه بقوله‏:‏ ‏{‏وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏، بعد قوله‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ‏}‏، فيه إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتوكل إلا على من يستحق العبادة؛ لأن غيره ليس بيده الأمر‏.‏ وهذا المعنى المشار إليه هنا جاء مبينًا واضحًا في آيات أُخر كقوله‏:‏ ‏{‏فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا‏}‏، وإلى غير ذلك من الآيات‏.‏


‏{‏صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ‏}‏


لم يبين هنا من ه?ؤلاء الذين أنعم عليهم‏.‏ وبين ذلك في موضع آخر بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا‏}‏‏.‏


تنبيهــان


الأول‏:‏ يؤخذ من هذه الآية الكريمة صحة إمامة أبي بكر الصدّيق رضي اللَّه عنه؛ لأنَّه داخل فيمن أمرنا اللَّه في السبع المثاني والقرءان العظيم ــ أعني الفاتحة ــ بأن نسأله أن يهدينا صراطهم‏.‏ فدلّ ذلك على أن صراطهم هو الصراط المستقيم‏.‏


وذلك في قوله‏:‏ ‏{‏اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ‏}‏ وقد بيّن الذين أنعم عليهم فعد منهم الصديقين‏.‏ وقد بيّن صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر رضي الله عنه من الصديقين، فاتضح أنه داخل في الذين أنعم اللَّه عليهم، الذين أمرنا اللَّه أن نسأله الهداية إلى صراطهم فلم يبق لبس في أن أبا بكر الصديق رضي اللَّه عنه على الصراط المستقيم، وأن إمامته حق‏.‏


الثاني‏:‏ قد علمت أن الصديقين من الذين أنعم اللَّه عليهم‏.‏ وقد صرح تعالى? بأن مريم ابنة عمران صدّيقة في قوله‏:‏ ‏{‏وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ‏}‏، وإذن فهل تدخل مريم في قوله تعالى?‏:‏ ‏{‏صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ‏}‏، أو لا ‏؟‏


الجواب‏:‏ أن دخولها فيهم يتفرع على قاعدة أصولية مختلف فيها معروفة، وهي‏:‏ هل ما في القرءان العظيم والسنة من الجموع الصحيحة المذكرة ونحوها مما يختص بجماعة الذكور تدخل فيه الإناث أو لا يدخلن فيه إلا بدليل منفصل ‏؟‏ فذهب قوم إلى أنهن يدخلن في ذلك، وعليه‏:‏ فمريم داخلة في الآية واحتج أهل هذا القول بأمرين‏:‏


لأول‏:‏ إجماع أهل اللسان العربي على تغليب الذكور على الإناث في الجمع‏.‏


والثاني‏:‏ ورود آيات تدل على دخولهن في الجموع الصحيحة المذكرة ونحوها، كقوله تعالى? في مريم نفسها‏:‏ ‏{‏وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ‏}‏، وقوله في امرأة العزيز‏:‏ ‏{‏يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ‏}‏، وقوله في بلقيس‏:‏ ‏{‏وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ‏}‏، وقوله فيما كالجمع المذكر السالم‏:‏ ‏{‏قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً‏}‏؛ فإنه تدخل فيه حواء إجماعًا‏.‏ وذهب كثير إلى أنهن لا يدخلن في ذلك إلا بدليل منفصل‏.‏ واستدلوا على ذلك بآيات كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا‏}‏، وقوله تعالى?‏:‏ ‏{‏قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ‏}‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ‏}‏، فعطفهن عليهم يدل على عدم دخولهن‏.‏ وأجابوا عن حجة أهل القول الأول بأن تغليب الذكور على الإناث في الجمع ليس محل نزاع‏.‏ وإنما النزاع في الذي يتبادر من الجمع المذكر ونحوه عند الإطلاق‏.‏ وعقن الآيات بأن دخول الإناث فيها‏.‏ إنما علم من قرينة السياق ودلالة اللفظ، ودخولهن في حالة الاقتران بما يدل على ذلك لا نزاع فيه‏.‏


وعلى هذا القول‏:‏ فمريم غير داخلة في الآية وإلى هذا الخلاف أشار في ‏"‏ مراقي السعود ‏"‏ بقوله‏:‏ ‏(‏الرجز‏)‏ وما شمول من للانثى جنف وفي شبيه المسلمين اختلفوا




وقوله‏:‏ ‏{‏صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ‏}‏ قال جماهير من علماء التفسير‏:‏ ‏{‏المَغضُوبِ عَلَيهِمْ‏}‏، اليهود و ‏"‏ الضالون ‏"‏ النصارى‏.‏ وقد جاء الخبر بذلك عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من حديث عدي بن حاتم رضي اللَّه عنه‏.‏ واليهود والنصارى وإن كانوا ضالين جميعًا مغضوبًا عليهم جميعًا، فإن الغضب إِنما خص به اليهود، وإن شاركهم النصارى فيه، لأنهم يعرفون الحق وينكرونه ويأتون الباطل عمدًا، فكان الغضب أخص صفاتهم‏.‏ والنصارى جهلة لا يعرفون الحق، فكان الضلال أخص صفاتهم‏.‏


وعلى هذا فقد يبين أن ‏{‏المَغضُوبِ عَلَيهِمْ‏}‏ اليهود‏.‏ قوله تعالى? فيهم‏:‏ ‏{‏فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ‏}‏، وقوله فيهم أيضا‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ‏}‏؛ وقد يبين أن ‏{‏الضَّالِّينَ‏}‏ النصارى، قوله تعالى?‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ‏}‏‏.‏













الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

كاتب الموضوعرسالة
الهدى

الهدى


عدد المساهمات : 326
التميز : 1
تاريخ التسجيل : 14/10/2009

تفسير اضواء البيان فى ايضاح القران بالقران - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: تفسير اضواء البيان فى ايضاح القران بالقران   تفسير اضواء البيان فى ايضاح القران بالقران - صفحة 2 Emptyالإثنين يناير 11, 2010 4:58 am


وصرح في موضع آخر أن وقعة بدر بيّنة أي‏:‏ لا لبس في الحق معها وذلك في قوله‏:‏ ‏{‏لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

وصرح أيضًا بأن وقعة بدر فرقان فارق بين الحق والباطل، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ لم يبيّن هنا كم يدخل تحت لفظ الأنعام من الأصناف‏.‏

ولكنه قد بيّن في مواضع أُخر أنها ثمانية أصناف هي الجمل والناقة والثور والبقرة والكبش والنعجة والتيس والعنز كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا‏}‏، ثم بيّن الأنعام بقوله‏:‏ ‏{‏ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ‏}‏، يعني الكبش والنعجة‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ‏}‏، يعني‏:‏ التيس والعنز إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ‏}‏ يعني‏:‏ الجمل والناقة، ‏{‏وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ‏}‏، يعني‏:‏ الثور والبقرة وهذه الثمانية هي المرادة بقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ‏}‏، وهي المشار إليها بقوله‏:‏ ‏{‏فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ‏}‏‏.‏

تنبيــه

‏:‏ ربما أطلقت العرب لفظ النعم على خصوص الإبل، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من حمر النعم‏"‏ يعني‏:‏ الإبل‏.‏ وقول حسان رضي اللَّه عنه‏:‏ وكانت لا يزال بها أنيس خلال مروجها نعم وشاء

أي‏:‏ إبل وشاء‏.‏

‏{‏قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ‏}‏

‏.‏ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ صرح تعالى في هذه الآية الكريمة‏:‏ أن اتباع نبيه موجب لمحبته جلّ وعلا ذلك المتبع، وذلك يدل على أن طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم هي عين طاعته تعالى، وصرح بهذا المدلول في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا‏}‏‏.‏

تنبيــه

‏:‏ يؤخذ من هذه الآية الكريمة أن علامة المحبة الصادقة للَّه ورسوله صلى الله عليه وسلم هي اتباعه صلى الله عليه وسلم، فالذي يخالفه ويدعي أنه يحبه فهو كاذب مفتر؛ إذ لو كان محبًا له لأطاعه، ومن المعلوم عند العامة أن المحبة تستجلب الطاعة، ومنه قول الشاعر‏:‏ لو كان حبك صادقًا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع


وقول ابن أبي ربيعة المخزومي‏:‏ ومن لو نهاني من حبه عن الماء عطشان لم أشرب


وقد أجاد من قال‏:‏ قالت‏:‏ وقد سألت عن حال عاشقها باللَّه صفه ولا تنقص ولا تزد

فقلت‏:‏ لو كان رهن الموت من ظمأ

وقلت‏:‏ قف عن ورود الماء لم يرد

‏{‏قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء‏}‏

، قَالَ رَبِّ أَنَّىا يَكُونُ لِي غُلَـامٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ لم يبيّن هنا القدر الذي بلغ من الكبر، ولكنه بيّن في سورة ‏"‏مريم‏"‏ أنه بلغ من الكبر عتيًا‏.‏ وذلك في قوله تعالى عنه‏:‏ ‏{‏وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا‏}‏، والعتي‏:‏ اليبس والقحول في المفاصل والعظام من شدة الكبر‏.‏

وقال ابن جرير في ‏"‏تفسيره‏"‏‏:‏ وكل متناه إلى غايته في كبر أو فساد أو كفر فهو عات وعاس قوله تعالى عن زكريا‏:‏ ‏{‏امْرَأَتِي عَاقِرًا‏}‏، لم يبيّن هنا هل كانت كذلك أيام شبابها، ولكنه بيّن في سورة ‏"‏ مريم ‏"‏ أنها كانت كذلك قبل كبرها بقوله عنه‏:‏ ‏{‏وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا‏}‏‏.‏

‏{‏قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ‏}‏

، قَالَ ءَايَتُكَ أَلاَّ لم يبين هل المانع له من كلام الناس بكم طرأ له، أو آفة تمنعه من ذلك‏.‏ أو لا مانع له إلا اللَّه وهو صحيح لا علة له‏.‏

ولكنه بيّن في سورة ‏"‏مريم‏"‏ أنه لا بأس عليه‏.‏ وأن انتفاء التكلم عنه لا لبكم، ولا مرض وذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ‏}‏؛ لأن قوله ‏{‏سويا‏}‏ حال من فاعل تكلم مفيد لكون انتفاء التكلم بطريق الإعجاز وخرق العادة، لا لاعتقال اللسان بمرض، أي‏:‏ يتعذر عليك تكليمهم ولا تطيقه، في حال كونك سوي الخلق سليم الجوارح، ما بك شائبة بكم ولا خرس، وهذا ما عليه الجمهور، ويشهد له قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ‏}‏‏.‏

وعن ابن عباس‏:‏ أن سويًّا عائد إلى الليالي‏.‏ أي‏:‏ كاملات مستويات، فيكون صفة الثلاث، وعليه فلا بيان بهذه الآية لآية ‏"‏ آل عمران ‏"‏‏.‏

‏{‏إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ‏}‏، إِذْ قَالَتِ الْمَلَـائِكَةُ يامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ لم يبيّن هنا هذه الكلمة التي أطلقت على عيسى؛ لأنها هي السبب في وجوده من إطلاق السبب وإرادة مسببه، ولكنه بيّن في موضع آخر أما أنها لفظة كن، وذلك في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ‏}‏، وقيل‏:‏ الكلمة بشارة الملائكة لها بأنها ستلده واختاره ابن جرير، والأول قول الجمهور‏.‏

‏{‏وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏

، وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ لم يبيّن هنا ما كلمهم به في المهد‏.‏ ولكنه بيّنه في سورة ‏"‏مريم‏"‏ بقوله‏:‏ ‏{‏فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا‏}‏‏.‏

‏{‏قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ‏}‏

، قَالَتْ رَبِّ أَنَّىا يَكُونُ لِى وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ أشار في هذه الآية إلى قصة حملها بعيسى وبسطها مبينة في سورة ‏"‏ مريم ‏"‏ بقوله‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا‏}‏‏.‏ إلى آخر القصة وبين النفخ فيها في سورة ‏"‏التحريم ‏"‏ و‏"‏الأنبياء‏"‏، معبرًا في التحريم بالنفخ في فرجها، وفي ‏"‏الأنبياء‏"‏ بالنفخ فيها‏.‏

‏{‏فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ‏}‏

، فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىا مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِىا إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ لم يبيّن هنا الحكمة في ذكر قصة الحواريين مع عيسى، ولكنّه بيّن في سورة ‏"‏الصف‏"‏، أن حكمة ذكر قصتهم هي أن تتأسى بهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم في نصرة اللَّه ودينه، وذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ‏}‏

، وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَـاكِرِينَ لم يبيّن هنا مكر اليهود بعيسى ولا مكر اللَّه باليهود، ولكنه بيّن في موضع آخر أن مكرهم به محاولتهم قتله، وذلك في قوله‏:‏ ‏{‏وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا‏}‏، وبيّن أن مكره بهم إلقاؤه الشبه على غير عيسى وإنجاؤه عيسى عليه وعلى نبيّنا الصلاة والسلام، وذلك في قوله‏:‏ ‏{‏وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا‏}‏ الآية‏.‏

‏{‏إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ‏}‏

‏.‏ إِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَىا إِنِّي مُتَوَفِّيكَ قال بعض العلماء‏:‏ أي مُنجِّك ورافعك إليَّ في تلك النومة ويستأنس لهذا التفسير بالآيات التي جاء فيها إطلاق الوفاة على النوم، كقوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏

‏{‏ياأَهْلَ الْكِتَـابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِىا إِبْرَاهِيمَ لم يبيّن هنا ما وجه محاجتهم في إبراهيم‏.‏ ولكنه بيّن في موضع آخر أن محاجتهم في إبراهيم هي قول اليهود‏:‏ إنه يهودي، والنصارى‏:‏ إنه نصراني، وذلك في قوله‏:‏ ‏{‏أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏، وأشار إلى ذلك هنا بقوله‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ‏}‏

‏.‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَـانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ قال بعض العلماء‏:‏ يعني إذا أخروا التوبة إلى حضور الموت فتابوا حينئذ، وهذا التفسير يشهد له قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا‏}‏‏.‏ وقد تقرر في الأصول حمل المطلق على المقيد، ولا سيّما إذا اتحد الحكم والسبب كما هنا‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ معنى لن تقبل توبتهم لن يوفقوا للتوبة حتى تقبل منهم ويشهد له قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا‏}‏، فعدم غفرانه لهم لعدم هدايتهم السبيل الذي يغفر لصاحبه ونظيرها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا‏}‏‏.‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ‏}‏

، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الاٌّرْضِ ذَهَبًا صرّح في هذه الآية الكريمة، أن الكفار يوم القيامة لا يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبًا ولو افتدى به‏.‏

وصرّح في مواضع أخر أنه لو زيد بمثله لا يقبل منه أيضًا كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ‏}‏، وبيّن في مواضع أُخر، أنه لا يقبل فداء في ذلك اليوم منهم بتاتًا كقوله‏:‏ ‏{‏فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ‏}‏، والعدل‏:‏ الفداء‏.‏

‏{‏فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاء وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏

، وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ الْعَـالَمِينَ صرّح في هذه الآية، أنه غني عن خلقه، وأن كفر من كفر منهم لا يضره شيئًا، وبيّن هذا المعنى في مواضع متعددة، كقوله عن نبيّه موسى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ‏}‏، إلى غير ذلك من الآيات،‏.‏

فاللَّه تبارك وتعالى يأمر الخلق وينهاهم؛ لا لأنه تضره معصيتهم ولا تنفعه طاعتهم، بل نفع طاعتهم لهم وضرر معصيتهم عليهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ‏}‏‏.‏ وثبت في ‏"‏صحيح مسلم‏"‏ عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه عن ربه أنه قال‏:‏ ‏"‏يا عبادي، لو أن أولكم وأخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا‏"‏ الحديث‏.‏

تنبيــه

‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ‏}‏، بعد قوله‏:‏ ‏{‏ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا‏}‏، يدلّ على أن من لم يحج كافر، واللَّه غني عنه‏.‏ وفي المراد بقوله‏:‏ ‏{‏ومن كفر‏}‏، أوجه للعلماء‏.‏ الأول‏:‏ أن المراد بقوله‏:‏ ‏{‏ومن كفر‏}‏ أي‏:‏ ومن جحد فريضة الحج، فقد كفر واللَّه غني عنه، وبه قال‏:‏ ابن عباس ومجاهد وغير واحد قاله ابن كثير‏.‏ ويدل لهذا الوجه ما روي عن عكرمة ومجاهد من أنهما قالا لما نزلت‏:‏ ‏{‏وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏، قالت اليهود‏:‏ فنحن مسلمون‏.‏

فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن اللَّه فرض على المسلمين حج البيت من استطاع إليه سبيلاً، فقالوا‏:‏ لم يكتب علينا، وأبوا أن يحجوا‏"‏‏.‏ قال اللَّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عن العالمين‏}‏‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أن المراد بقوله‏:‏ ‏{‏ومن كفر‏}‏، أي‏:‏ ومن لم يحجّ على سبيل التغليظ البالغ في الزجر عن ترك الحج مع الاستطاعة كقوله المقداد الثابت في ‏"‏الصحيحين‏"‏ حين سأله عن قتل من أسلم من الكفار بعد أن قطع يده في الحرب‏:‏ ‏"‏لا تقتله، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول الكلمة التي قال‏"‏‏.‏

الوجه الثالث‏:‏ حمل الآية على ظاهرها وأن من لم يحج مع الاستطاعة فقد كفر‏.‏

وقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏من ملك زادًا وراحلة ولم يحج بيت اللَّه فلا يضره، مات يهوديًا، أو نصرانيًا؛ وذلك بأن اللَّه قال‏:‏ ‏{‏ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين‏}‏ ‏"‏‏.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الهدى

الهدى


عدد المساهمات : 326
التميز : 1
تاريخ التسجيل : 14/10/2009

تفسير اضواء البيان فى ايضاح القران بالقران - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: تفسير اضواء البيان فى ايضاح القران بالقران   تفسير اضواء البيان فى ايضاح القران بالقران - صفحة 2 Emptyالإثنين يناير 11, 2010 4:59 am


روى هذا الحديث الترمذي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، كما نقله عنهم ابن كثير وهو حديث ضعيف ضعفه غير واحد بأن في إسناده هلال بن عبد اللَّه مولى ربيعة بن عمرو بن مسلم الباهلي، وهلال هذا‏.‏ قال الترمذي‏:‏ مجهول، وقال البخاري‏:‏ منكر الحديث، وفي إسناده أيضًا الحارث الذي رواه عن عليّ رضي اللَّه عنه‏.‏ قال الترمذي‏:‏ إنه يضعف في الحديث‏.‏ وقال ابن عدي‏:‏ هذا الحديث ليس بمحفوظ‏.‏ انتهى بالمعنى من ابن كثير‏.‏

وقال ابن حجر‏:‏ في ‏"‏ الكافي الشاف، في تخريج أحاديث الكشاف‏"‏‏:‏ في هذا الحديث أخرجه الترمذي من رواية هلال بن عبد اللَّه الباهلي، حدّثنا إبو أسحاق، عن الحارث، عن علي رفعه‏:‏ ‏"‏من ملك زادًا وراحلة تبلغه إلى بيت اللَّه ولم يحجّ، فلا عليه أن يموت يهوديًا أو نصرانيًا‏"‏‏.‏

وقال‏:‏ غريب وفي إسناده مقال، وهلال بن عبد اللَّه مجهول، والحارث يضعف، وأخرجه البزار من هذا الوجه، وقال‏:‏ لا نعلمه عن علي إلا من هذا الوجه، وأخرجه ابن عدي، والعقيلي في ترجمة هلال، ونقلاً عن البخاري أنه منكر الحديث‏.‏

وقال البيهقي في ‏"‏الشعب‏"‏‏:‏ تفرد به هلال وله شاهد من حديث أبي أمامة، أخرجه الدارمي بلفظ‏:‏ ‏"‏من لم يمنعه عن الحج حاجة ظاهرة، أو سلطان جائر، أو مرض حابس، فمات فليمت إن شاء يهوديًا، أو إن شاء نصرانيًا‏"‏، أخرجه من رواية شريك، عن ليث بن أبي سليم، عن عبد الرحمان بن سابط عنه، ومن هذا الوجه أخرجه البيهقي في ‏"‏الشعب‏"‏، وأخرجه ابن أبي شيبة، عن أبي الأحوص، عن ليث، عن عبد الرحمان مرسلاً لم يذكر أبا أمامة وأورده ابن الجوزي في ‏"‏الموضوعات‏"‏ من طريق ابن عدي، وابن عدي وأورده في ‏"‏الكامل‏"‏ في ترجمة أبي المهزوم يزيد بن سفيان عن أبي هريرة مرفوعًا نحوه، ونقل عن القلاس أنه كذب أبا المهزوم، وهذا من غلط ابن الجوزي في تصرفه؛ لأن الطريق إلى أبي أمامة ليس فيها من اتهم بالكذب‏.‏

وقد صحّ عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه أنه قال‏:‏ من أطاق الحج فلم يحج فسواء مات يهوديًا أو نصرانيًا، والعلم عند اللَّه تعالى‏.‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ‏}‏

‏.‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ‏}‏، أكثر العلماء على أنها منسوخة بقوله‏:‏ ‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏}‏‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ هي مبينة للمراد منها فقوله‏:‏ ‏{‏حق تقاته‏}‏، أي‏:‏ بقدر الطاقة، واللَّه تعالى أعلم‏.‏

‏{‏وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏

، وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً لم يبيّن هنا ما بلغته معاداتهم من الشدة، ولكنّه بيّن في موضع آخر أن معاداتهم بلغت من الشدة أمرًا عظيمًا حتى لو أنفق ما في الأرض كله؛ لإزالتها وللتأليف بين قلوبهم لم يفد ذلك شيئًا وذلك في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏‏.‏

‏{‏يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ‏}‏

وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ بيّن في هذه الآية الكريمة أن من أسباب اسوداد الوجوه يوم القيامة الكفر بعد الإيمان، وذلك في قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ‏}‏‏.‏

وبيّن في موضع آخر أن من أسباب ذلك الكذب على اللَّه تعالى وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ‏}‏‏.‏ وبيّن في موضع آخر أن من أسباب ذلك اكتساب السيئات، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏، وبيّن في موضع آخر أن من أسباب ذلك الكفر والفجور وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ‏}‏‏.‏

وهذه الأسباب في الحقيقة شىء واحد عبّر عنه بعبارات مختلفة، وهو الكفر باللَّه تعالى، وبيّن في موضع آخر شدة تشويه وجوههم بزرقة العيون، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا‏}‏، وأقبح صورة أن تكون الوجوه سودًا والعيون زرقًا، إلا ترى الشاعر لما أراد أن يصور علل البخيل في أقبح صورة وأشوهها اقترح لها زرقة العيون، واسوداد الوجوه في قوله‏:‏

وللبخيل على أمواله علل زرق العيون عليها أوجه سود

‏{‏لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَاصِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ‏}‏

‏.‏ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ ءَايَـاتِ اللَّهِ ءَانَآءَ الَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ذكر هنا من صفات هذه الطائفة المؤمنة من أهل الكتاب أنها قائمة، أي‏:‏ مستقيمة على الحق وأنها تتلو آيات اللَّه آناء الليل وتصلّي وتؤمن باللَّه وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر‏.‏

وذكر في موضع آخر أنها تتلو الكتاب حقّ تلاوته وتؤمن باللَّه، وهو قوله‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ‏}‏‏.‏

وذكر في موضع آخر أنهم يؤمنون باللَّه وما أُنزل إلينا وما أُنزل إليهم، وأنهم خاشعون للَّه لا يشترون بآياته ثمنًا قليلا، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ‏}‏‏.‏ وذكر في موضع آخر أنهم يفرحون بإنزال القرءَان، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ‏}‏‏.‏ وذكر في موضع آخر أنهم يعلمون أن إنزال القرءَان من اللَّه حقّ، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ‏}‏، وذكر في موضع آخر أنهم إذا تلي عليهم القرءَان خرّوا لأذقانهم سجدًا وسبحوا ربهم وبكوا، وهو قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا‏}‏‏.‏

وقال في بكائهم عند سماعه أيضًا‏:‏ ‏{‏وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ‏}‏، وذكر في موضع آخر أن هذه الطائفة من أهل الكتاب، تؤتى أجرها مرتين، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا‏}‏‏.‏

‏{‏هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ‏}‏، وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَـابِ كُلِّهِ يعني‏:‏ وتؤمنون بالكتب كلها كما يدل له قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ‏}‏‏.‏

‏{‏وَللَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا‏}‏، فِى الاٌّرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ يعني‏:‏ عرضها كعرض السماوات والأرض كما بيّنه قوله تعالى في سورة ‏{‏الْحَدِيدَ‏}‏‏:‏ ‏{‏سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأَرْضِ‏}‏، وآية ‏"‏آل عمران‏"‏ هذه تبيّن أن المراد بالسماء في آية ‏"‏الحديد‏"‏ جنسها الصادق بجميع السماوات كما هو ظاهر، والعلم عند اللَّه تعالى‏.‏

‏{‏إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ‏}‏، المراد بالقرح الذي مسّ المسلمين هو ما أصابهم يوم أُحد من القتل والجرح، كما أشار له تعالى في هذه السورة الكريمة في مواضع متعددة كقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏، ونحو ذلك من الآيات‏.‏

وأما المراد بالقرح الذي مسّ القوم المشركين فيحتمل أنه هو ما أصابهم يوم بدر من القتل والأسر، وعليه فإليه الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ‏}‏‏.‏

ويحتمل أيضًا أنه هزيمة المشركين أولاً يوم أُحد، كما سيأتي قريبًا إن شاء اللَّه تعالى، وقد أشار إلى القرحين معًا بقوله‏:‏ ‏{‏أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا‏}‏، فالمراد بمصيبة المسلمين القرح الذي مسهم يوم أُحد، والمراد بمصيبة الكفار بمثليها قبل القرح الذي مسّهم يوم بدر؛ لأن المسلمين يوم أُحد قتل منهم سبعون، والكفار يوم بدر قتل منهم سبعون، وأسر سبعون‏.‏

وهذا قول الجمهور وذكر بعض العلماء أن المصيبة التي أصابت المشركين هي ما أصابهم يوم أُحد من قتل وهزيمة، حيث قتل حملة اللواء من بني عبد الدار، وانهزم المشركون في أول الأمر هزيمة منكرة وبقي لواؤهم ساقطًا حتى رفعته عمرة بنت علقمة الحارثية، وفي ذلك يقول حسان‏:‏ فلولا لواء الحارثية أصبحوا يباعون في الأسواق بيع الجلائب


وعلى هذا الوجه‏:‏ فالقرح الذي أصاب القوم المشركين يشير إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ‏}‏‏.‏ ومعنى تحسونهم‏:‏ تقتلونهم وتستأصلونهم وأصله من الحسّ الذي هو الإدراك بالحاسّة، فمعنى حسَّه أذهب حسّه بالقتل، ومنه قول جرير‏:‏

تحسهم السيوف كما تسامى حريق النار في أجم الحصيد

وقول الآخر‏:‏ حسسناهم بالسيف حسًا فأصبحت بقيتهم قد شردوا وتبددوا


وقول رؤبة‏:‏ إذا شكونا سنة حسوسًا تأكل بعد الأخضر اليبيسا


يعني بالسنة الحسوس‏:‏ السنة المجدبة التي تأكل كل شىء، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب أن الآية قد يكون فيها احتمالان، وكل منهما يشهد له قرءَان، وكلاهما حق فنذكرهما معًا، وما يشهد لكل واحد منهما‏.‏

قال بعض العلماء‏:‏ وقرينة السياق تدل على أن القرح الذي أصاب المشركين ما وقع بهم يوم أُحد؛ لأن الكلام في وقعة أُحد ولكن التثنية في قوله‏:‏

‏{‏مّثْلَيْهَا‏}‏ تدل على أن القرح الذي أصاب المشركين ما وقع بهم يوم بدر؛ لأنه لم ينقل أحد أن الكفار يوم أُحد أُصيبوا بمثلي ما أُصيب به المسلمون، ولا حجّة في قوله‏:‏ ‏{‏تَحُسُّونَهُمْ‏}‏؛ لأن ذلك الحسّ والاستئصال في خصوص الذي قتلوا من المشركين، وهم أقل ممن قتل من المسلمين يوم أُحد، كما هو معلوم‏.‏

فإن قيل‏:‏ ما وجه الجمع بين الإفراد في قوله‏:‏ ‏{‏قَرْحٌ مِّثْلُهُ‏}‏، وبين التثنية في قوله‏:‏ ‏{‏قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا‏}‏، فالجواب واللَّه تعالى أعلم أن المراد بالتثنية قتل سبعين وأسر سبعين يوم بدر؛ في مقابلة سبعين يوم أُحد، كما عليه جمهور العلماء‏.‏

والمراد بإفراد المثل‏:‏تشبيه القرح بالقرح في مطلق النكاية والألم، والقراءتان السبعيتان في قوله‏:‏ ‏{‏إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ‏}‏، بفتح القاف وضمها في الحرفين معناهما واحد فهما لغتان كالضُعف والضَعف‏.‏

وقال الفراء‏:‏ القرح بالفتح الجرح وبالضم ألمه اهـ‏.‏ ومن إطلاق العرب القرح على الجرح قول متمم بن نويرة التميمي‏:‏

قعيدك ألا تسمعيني ملامة ولا تنكئي قرح الفؤاد فييجعا

‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ بَلِ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَا هُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ‏}‏

، أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَـاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّـابِرِينَ أنكر اللَّه في هذه الآية، على من ظن أنه يدخل الجنة دون أن يبتلى بشدائد التكاليف التي يحصل بها الفرق بين الصابر المخلص في دينه، وبين غيره وأوضح هذا المعنى في آيات متعددة كقوله‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ‏}‏‏.‏

وفي هذه الآيات سر لطيف وعبرة وحكمة، وذلك أن أبانا ءَادم كان في الجنة يأكل منها رغدًا حيث شاء في أتم نعمة وأكمل سرور، وأرغد عيش‏.‏ كما قال له ربه‏:‏ ‏{‏إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى‏}‏، ولو تناسلنا فيها لكنا في أرغد عيش وأتم نعمة، ولكن إبليس عليه لعائن اللَّه احتال بمكره وخداعه على أبوينا حتى أخرجهما من الجنة، إلى دار الشقاء والتعب‏.‏

وحينئذ حكم اللَّه تعالى أن جنته لا يدخلها أحد إلا بعد الابتلاء بالشدائد وصعوبة التكاليف‏.‏ فعلى العاقل منا معاشر بني ءادم أن يتصور الواقع ويعلم أننا في الحقيقة سبي سباه إبليس بمكره وخداعه من وطنه الكريم إلى دار الشقاء والبلاء، فيجاهد عدوه إبليس ونفسه الأمّارة بالسوء حتى يرجع إلى الوطن الأول الكريم، كما قال ابن القيم‏:‏ ولكننا سبي العدو فهل ترى نرد إلى أوطاننا ونسلم


ولهذه الحكمة أكثر اللَّه تعالى في كتابه من ذكر قصة إبليس مع ءَادم لتكون نصب أعيننا دائمًا‏.‏

‏{‏وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ‏}‏، هذه الآية الكريمة على قراءة من قرأ قتل بالبناء للمفعول يحتمل نائب الفاعل فيها أن يكون لفظة ربيون وعليه فليس في قتل ضمير أصلاً، ويحتمل أن يكون نائب الفاعل ضميرًا عائدًا إلى النبيّ، وعليه فمعه خبر مقدم وربيون مبتدأ مؤخر سوغ الابتداء به اعتماده على الظرف قبله ووصفه بما بعده والجملة حالية والرابط الضمير، وسوغ إتيان الحال من النكرة التي هي نبي وصفه بالقتل ظلمًا، وهذا هو أجود الأعاريب المذكورة في الآية على هذا القول، وبهذين الاحتمالين في نائب الفاعل المذكور يظهر أن في الآية إجمالاً‏.‏ والآيات القرآنية مبينة أن النبيّ المقاتل غير مغلوب بل هو غالب، كما صرّح تعالى بذلك في قوله‏:‏ ‏{‏كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ‏}‏، وقال قبل هذا‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ‏}‏، وقال بعده‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ‏}‏‏.‏

وأغلب معاني الغلبة في القرءَان الغلبة بالسيف والسنان كقوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ‏}‏،

وقوله‏:‏ ‏{‏قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ‏}‏، إلى غير ذلك من الآيات‏.‏

وبيّن تعالى أن المقتول ليس بغالب بل هو قسم مقابل للغالب بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا‏}‏، فاتضح من هذه الآيات أن القتل ليس واقعًا على النبيّ المقاتل؛ لأن اللَّه كتب وقضى له في أزله أنه غالب، وصرّح بأن المقتول غير غالب‏.‏

وقد حقق العلماء أن غلبة الأنبياء على قسمين، غلبة بالحجة والبيان، وهي ثابتة لجميعهم، وغلبة بالسيف والسنان، وهي ثابتة لخصوص الذين أمروا منهم بالقتال في سبيل اللَّه؛ لأن من لم يؤمر بالقتال ليس بغالب ولا مغلوب؛ لأنه لم يغالب في شىء وتصريحه تعالى، بأنه كتب إن رسله غالبون شامل لغلبتهم من غالبهم بالسيف، كما بيّنا أن ذلك هو معنى الغلبة في القرءَان، وشامل أيضًا لغلبتهم بالحجة والبيان، فهو مبين أن نصر الرسل المذكور في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ‏}‏، وفي قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ‏}‏، أنه نصر غلبة بالسيف والسنان للذين أمروا منهم بالجهاد؛ لأن الغلبة التي بيّن أنها كتبها لهم أخص من مطلق النصر؛ لأنها نصر خاص، والغلبة لغة القهر والنصر لغة إعانة المظلوم، فيجب بيان هذا الأعم بذلك الأخص‏.‏

وبهذا تعلم أن ما قاله الإمام الكبير ابن جرير رحمه اللَّه ومن تبعه في تفسير قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا‏}‏، من أنه لا مانع من قتل الرسول المأمور بالجهاد، وأن نصره المنصوص في الآية، حينئذ يحمل على أحد أمرين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن اللَّه ينصره بعد الموت، بأن يسلط على من قتله من ينتقم منه، كما فعل بالذين قتلوا يحيىا وزكرياء وشعيا من تسليط بختنصر عليهم، ونحو ذلك‏.‏ الثاني‏:‏ حمل الرسل في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا‏}‏، على خصوص نبيّنا صلى الله عليه وسلم وحده، أنه لا يجوز حمل القرءَان عليه لأمرين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه خروج بكتاب اللَّه عن ظاهره المبتادر منه بغير دليل من كتاب، ولا سنة ولا إجماع، والحكم بأن المقتول من المتقاتلين هو المنصور بعيد جدًا، غير معروف في لسان العرب، فحمل القرءَان عليه بلا دليل غلط ظاهر، وكذلك حمل الرسل على نبيّنا وحده صلى الله عليه وسلم فهو بعيد جدًا أيضًا، والآيات الدالّة على عموم الوعد بالنصر لجميع الرسل كثيرة، لا نزاع فيها‏.‏

الثاني‏:‏ أن اللَّه لم يقتصر في كتابه على مطلق النصر الذي هو في اللغة إعانة المظلوم، بل صرح بأن ذلك النصر المذكور للرسل نصر غلبة بقوله‏:‏ ‏{‏كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ‏}‏، وقد رأيت معنى الغلبة في القرءَان ومر عليك أن اللَّه جعل المقتول قسمًا مقابلاً للغالب في قوله‏:‏ ‏{‏فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا‏}‏، وصرح تعالى بأن ما وعد به رسله لا يمكن تبديله بقوله جلّ وعلا‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ‏}‏، ولا شكّ أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ‏}‏، من كلماته التي صرّح بأنها لا مبدل لها وقد نفى جلّ وعلا عن المنصور أن يكون مغلوبًا نفيًا باتًّا بقوله‏:‏ ‏{‏إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏، وذكر مقاتل أن سبب نزول قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ‏}‏، أن بعض الناس قال‏:‏ أيظن محمد وأصحابه أن يغلبوا الروم، وفارس، كما غلبوا العرب زاعمًا أن الروم وفارس لا يغلبهم النبيّ صلى الله عليه وسلم لكثرتهم وقوّتهم فأنزل اللَّه الآية، وهو يدل على أن الغلبة المذكورة فيها غلبة بالسيف والسنان؛ لأن صورة السبب لا يمكن إخراجها، ويدل له قوله قبله‏:‏ ‏{‏أُوْلَـئِكَ فِى الاْذَلّينَ‏}‏، وقوله بعده‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ‏}‏‏.‏

وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب، أننا نستشهد للبيان بالقراءة السبعية بقراءة شاذّة، فيشهد للبيان الذي بيّنا به، أن نائب الفاعل ربيون، وأن بعض القراء غير السبعة قرأ قتل معه ربيون بالتشديد؛ لأن التكثير المدلول عليه بالتشديد يقتضي أن القتل واقع على الربيين‏.‏

ولهذه القراءة رجح الزمخشري، والبيضاوي، وابن جني؛ أن نائب الفاعل ربيون، ومال إلى ذلك الألوسي في ‏"‏ تفسيره ‏"‏ مبيّنًا أن دعوى كون التشديد لا ينافي وقوع القتل على النبيّ؛ لأن‏:‏ ‏{‏كَأَيِّن‏}‏ إخبار بعدد كثير أي‏:‏ كثير من أفراد النبيّ قتل خلاف الظاهر، وهو كما قال، فإن قيل‏:‏ قد عرفنا أن نائب الفاعل المذكور محتمل لأمرين، وقد ادعيتم أن القرءَان دل على أنه ربيون لا ضمير النبي لتصريحه بأن الرسل غالبون، والمقتول غير غالب، ونحن نقول دل القرءَان في آيات أُخر، على أن نائب الفاعل ضمير النبيّ، لتصريحه في آيات كثيرة بقتل بعض الرسل كقوله‏:‏ ‏{‏فَرِيقاً * كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِالْبَيّنَـاتِ وَبِالَّذِى قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ‏}‏، فما وجه ترجيح ما استدللتم به على أن النائب ربيون، على ما استدللنا به على أن النائب ضمير النبيّ فالجواب من ثلاثة أوجه‏:‏

الأول‏:‏ أن ما استدللنا به أخص مما استدللتم به، والأخص مقدم على الأعم، ولا يتعارض عام وخاص، كما تقرر في الأصول، وإيضاحه أن دليلنا في خصوص نبي أمر بالمغالبة في شىء، فنحن نجزم بأنه غالب فيه تصديقًا لربنا في قوله‏:‏ ‏{‏كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ‏}‏، سواء أكانت تلك المغالبة في الحجّة والبيان، أم بالسيف والسنان، ودليلكم فيما هو أعم من هذا؛ لأن الآيات التي دلّت على قتل بعض الرسل، لم تدلّ على أنه في خصوص جهاد، بل ظاهرها أنه في غير جهاد، كما يوضحه‏.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الهدى

الهدى


عدد المساهمات : 326
التميز : 1
تاريخ التسجيل : 14/10/2009

تفسير اضواء البيان فى ايضاح القران بالقران - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: تفسير اضواء البيان فى ايضاح القران بالقران   تفسير اضواء البيان فى ايضاح القران بالقران - صفحة 2 Emptyالإثنين يناير 11, 2010 5:00 am


الوجه الثاني‏:‏ وهو أن جميع الآيات الدالّة على أن بعض الرسل قتلهم أعداء اللَّه كلها في قتل بني إسرائيل أنبياءهم، في غير جهاد، ومقاتله إلا موضع النزاع وحده‏.‏

الوجه الثالث‏:‏ أن ما رجحناه من أن نائب الفاعل ربيون، تتفق عليه آيات القرءَان اتفاقًا واضحًا، لا لبس فيه على مقتضى اللسان العربي في أفصح لغاته، ولم تتصادم منه آيتان، حيث حملنا الرسول المقتول على الذي لم يؤمر بالجهاد، فقتله إذن لا إشكال فيه، ولا يؤدي إلى معارضة آية واحدة من كتاب اللَّه؛ لأن اللَّه حكم للرسل بالغلبة، والغلبة لا تكون إلا مع مغالبة، وهذا لم يؤمر بالمغالبة في شىء، ولو أمر بها في شىء لغلب فيه، ولو قلنا بأن نائب الفاعل ضمير النبي لصار المعنى أن كثيرًا من الأنبياء المقاتلين قتلوا في ميدان الحرب، كما تدل عليه صيغة ‏{‏وكأين‏}‏ المميزة بقوله‏:‏ ‏{‏من نبي‏}‏، وقتل الأعداء هذا العدد الكثير من الأنبياء المقاتلين في ميدان الحرب مناقض مناقضة صريحة لقوله‏:‏ ‏{‏كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ‏}‏، وقد عرفت معنى الغلبة في القرءَان، وعرفت أنه تعالى، بين أن المقتول غير الغالب، كما تقدم، وهذا الكتاب العزيز ما أنزل ليضرب بعضه بعضًا، ولكن أنزل ليصدق بعضه بعضًا، فاتضح أن القرءَان دلّ دلالة واضحة على أن نائب الفاعل ربيون، وأنه لم يقتل رسول في جهاد، كما جزم به الحسن البصري وسعيد بن جبير، والزجاج، والفراء، وغير واحد، وقصدنا في هذا الكتاب البيان بالقرءَان،

لا بأقوال العلماء، ولذا لم ننقل أقوال من رجح ما ذكرنا‏.‏

وما رجح به بعض العلماء كون نائب الفاعل ضمير النبي من أن سبب النزول يدل على ذلك؛ لأن سبب نزولها أن الصائح صاح قتل محمّد صلى الله عليه وسلم وأن قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ‏}‏، يدلّ على ذلك وأن قوله‏:‏ ‏{‏فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ‏}‏، يدلّ على أن الربيين لم يقتلوا؛ لأنهم لو قتلوا لما قال عنهم‏:‏ ‏{‏فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ‏}‏، فهو كلام كله ساقط وترجيحات لا معول عليها فالترجيح بسبب النزول فيه أن سبب النزول لو كان يقتضي تعيين ذكر قتل النبيّ لكانت قراءة الجمهور قاتل بصيغة الماضي من المفاعلة جارية على خلاف المتعين وهو ظاهر السقوط كما ترى والترجيح بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ‏}‏، ظاهر السقوط؛ لأنهما معلقان بأداة الشرط والمعلق بها لا بدل على وقوع نسبة أصلاً لا إيجابًا، لا سلبًا حتى يرجح بها غيرها‏.‏

وإذا نظرنا إلى الواقع في نفس الأمر وجدنا نبيهم صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت لم يقتل ولم يمت والترجيح بقوله‏:‏ ‏{‏فما وهنوا‏}‏، سقوطه كالشمس في رابعة النهار وأعظم دليل قطعي على سقوطه قراءة حمزة والكسائي‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ‏}‏، كل الأفعال من القتل لا من القتال وهذه القراءة السبعية المتواترة فيها‏.‏ فإن قتلوكم بلا ألف بعد القاف فعل ماض من القتل فاقتلوهم أفتقولون هذا لا يصح؛ لأن المقتول لا يمكن أن يؤمر بقتل قاتله‏.‏ بل المعنى قتلوا بعضكم وهو معنى مشهور في اللغة العربية يقولون‏:‏ قتلونا وقتلناهم، يعنون وقوع القتل على البعض كما لا يخفى‏.‏ وقد أشرنا إلى هذا البيان في كتابنا ‏"‏ دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ‏"‏، والعلم عند اللَّه تعالى‏.‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏

، ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِى الاٌّرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ ذكر في هذه الآية الكريمة أن المنافقين إذا مات بعض إخوانهم يقولون لو أطاعونا فلم يخرجوا إلى الغزو ما قتلوا، ولم يبيّن هنا هل يقولون لهم ذلك قبل السفر إلى الغزو ليثبطوهم أو لا ‏؟‏ ونظير هذه الآية‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ‏}‏، ولكنه بيّن في آيات أُخر أنهم يقولون لهم ذلك قبل الغزو ليثبطوهم كقوله‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ‏}‏، إلى غير ذلك من الآيات‏.‏

‏{‏وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ‏}‏

، وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ذكر في هذه الآية الكريمة أن المقتول في الجهاد والميت كلاهما ينال مغفرة من اللَّه ورحمة خيرًا له مما يجمعه من حطام الدنيا وأوضح وجه ذلك في آية أخرى بيّن فيها أن اللَّه اشترى منه حياة قصيرة فانية منغصة بالمصائب والآلام بحياة أبدية لذيذة لا تنقطع ولا يتأذى صاحبها بشىء واشترى منه مالاً قليلاً فانيًا بملك لا ينفذ ولا ينقضي أبدًا، وهي قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا‏}‏، وبيّن في آية أخرى أن فضل اللَّه ورحمته خير مما يجمعه أهل الدنيا من حطامها وزاد فيها الأمر بالفرح بفضل اللَّه ورحمته دون حطام الدنيا، وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ‏}‏، وتقديم المعمول يؤذن بالحصر أعني قوله‏:‏ ‏{‏فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ‏}‏، أي‏:‏ دون غيره فلا يفرحوا بحطام الدنيا الذي يجمعونه‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمةُُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ‏}‏

‏.‏ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ قد قدمنا في سورة ‏"‏ الفاتحة ‏"‏ في الكلام على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ‏}‏، أن الجموع المذكرة ونحوها مما يختص بجماعة العقلاء من الذكور إذا وردت في كتاب اللَّه تعالى أو سنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم، اختلف العلماء فيها هل يدخل النساء أو لا يدخلن ‏؟‏ إلا بدليل على دخولهن وبذلك تعلم أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ‏}‏ يحتمل دخول النساء فيه وعدم دخولهن بناء على الاختلاف المذكور، ولكنّه تعالى بيّن في موضع آخر أنهنّ داخلات في جملة من أمر صلى الله عليه وسلم بالاستغفار لهم، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ‏}‏‏.‏

‏{‏أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ واللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ‏}‏

، أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَن بَآءَ بِسَخْطٍ مِّنَ اللَّهِ ذكر في هذه الآية أن من اتبع رضوان اللَّه ليس كمن باء بسخط منه؛ لأن همزة الإنكار بمعنى النفي ولم يذكر هنا صفة من اتبع رضوان اللَّه، ولكن أشار إلى بعضها في موضع آخر وهو قوله‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ‏}‏‏.‏

وأشار إلى بعض صفات من باء بسخط من اللَّه بقوله‏:‏ ‏{‏تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ‏}‏، وبقوله هنا‏:‏ ‏{‏وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ‏}‏‏.‏

‏{‏أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ‏}‏

، أَوَ لَمَّا أَصَـابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىا هَـاذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ ذكر في هذه الآية الكريمة أن ما أصاب المسلمين يوم أُحد إنما جاءهم من قبل أنفسهم، ولم يبيّن تفصيل ذلك هنا ولكنه فصله في موضع آخر وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ‏}‏، وهذا هو الظاهر في معنى الآية؛ لأن خير ما يبين به القرءَان القرءَان‏.‏

وأما على القول الآخر فلا بيان بالآية، وهو أن معنى‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ‏}‏، أنهم خيروا يوم بدر بين قتل أسارى بدر، وبين أسرهم وأخذ الفداء على أن يستشهد منهم في العام القابل قدر الأسارى، فاختاروا الفداء على أن يستشهد منهم في العام القابل سبعون قدر أسارى بدر، كما رواه الإمام أحمد وابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب، وعقده أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي بقوله‏:‏ والمسلمون خيروا بين الفدا وقدرهم في قابل يستشهدا

وبين قتلهم فمالوا للفدا لأنه على القتال عضدا

وأنه أدى إلى الشهادة وهي قصارى الفوز والسعادة

ونظمه هذا للمغازي جلّ اعتماده فيه على ‏"‏عيون الأثر‏"‏ لابن سيد الناس اليعمري، قال في مقدمته‏:‏ أرجوزة على عيون الأثر جلّ اعتماد نظمها في السير


وذكر شارحة أن الألف في قوله يستشهدًا مبدلة من نون التوكيد الخفيفة وأنها في البيت كقوله‏:‏ ربما أوفيت في علم ترفعن ثوبي شمالات


وعلى هذا القول‏:‏ فالمعنى قل هو من عند أنفسكم حيث اخترتم الفداء واستشهاد قدر الأسارى منكم‏.‏

‏{‏وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ‏}‏

‏.‏ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً نهى اللَّه تبارك وتعالى في هذه الآية عن ظن الموت بالشهداء، وصرح بأنهم ‏{‏أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ‏}‏، وأنهم فرحون ‏{‏فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ‏}‏، ‏{‏وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏‏.‏ ولم يبيّن هنا هل حياتهم هذه في البرزخ يدرك أهل الدنيا حقيقتها أو لا ‏؟‏ ولكنه بيّن في سورة ‏"‏البقرة‏"‏ أنهم لا يدركونها بقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ‏}‏؛ لأن نفي الشعور يدل على نفي الإدراك من باب أولى كما هو ظاهر‏.‏

‏{‏الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئًا وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ وَإِذَ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏

‏.‏ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ قال جماعة من العلماء‏:‏ المراد بالناس القائلين‏:‏ ‏{‏إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ‏}‏، نعيم بن مسعود الأشجعي أو أعرابي من خزاعة‏.‏ كما أخرجه ابن مردويه من حديث أبي رافع ويدلّ لهذا توحيد المشار إليه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ‏}‏‏.‏

قال صاحب ‏"‏ الإتقان ‏"‏‏)‏، قال الفارسي‏:‏ ومما يقوي أن المراد به واحد قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ‏}‏، فوقعت الإشارة بقوله‏:‏ ‏"‏ذَلِكُمُ‏"‏ إلى واحد بعينه، ولو كان المعنى جمعًا لقال‏:‏ إنما أُولئكم الشيطان‏.‏ فهذه دلالة ظاهرة في اللفظ‏.‏ اهـ منه بلفظه‏.‏

‏{‏وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ‏}‏

، وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاًّنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُوااْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ذكر في هذه الآية الكريمة أنه يملي للكافرين ويمهلهم لزيادة الإثم عليهم وشدة العذاب‏.‏ وبيّن في موضع آخر أنه لا يمهلهم متنعمين هذا الإمهال إلا بعد أن يبتليهم بالبأساء والضراء، فإذا لم يتضرعوا أفاض عليهم النعم وأمهلهم حتى يأخذهم بغتة، كقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ إلى قوله ‏{‏فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ‏}‏‏.‏

وبيّن في موضع آخر‏:‏ أن ذلك الاستدراج من كيده المتين، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ‏}‏‏.‏

وبيْن في موضع آخر‏:‏ أن الكفار يغترون بذلك الاستدراج فيظنون أنه من المسارعة لهم في الخيرات، وأنهم يوم القيامة يؤتون خيرًا من ذلك الذي أوتوه في الدنيا، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ‏}‏‏.‏ كما تقدم، والبأساء‏:‏ الفقر والفاقة، والضراء‏:‏ المرض على قول الجمهور، وهما مصدران مؤنثان لفظًا بألف التأنيث الممدودة‏.‏

‏{‏لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ وَإِذَ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ‏}‏

، لَتُبْلَوُنَّ فِىا أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَـابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوااْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذالِكَ مِنْ عَزْمِ الاٍّمُورِ ذكر في هذه الآية الكريمة أن المؤمنين سيبتلون في أموالهم وأنفسهم، وسيسمعون الأذى الكثير من أهل الكتاب والمشركين، وأنهم إن صبروا على ذلك البلاء والأذى واتقوا اللَّه، فإن صبرهم وتقاهم ‏{‏مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ‏}‏، أي‏:‏ من الأمور التي ينبغي العزم والتصميم عليها لوجوبها‏.‏

وقد بيّن في موضع آخر أن من جملة هذا البلاء‏:‏ الخوف والجوع وأن البلاء في الأنفس والأموال هو النقص فيها، وأوضح فيه نتيجة الصبر المشار إليها هنا بقوله‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ‏}‏، وذلك الموضع هو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ‏}‏، وبقوله‏:‏ ‏{‏مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏، ويدخل في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏، الصبر عند الصدمة الأولى، بل فسره بخصوص ذلك بعض العلماء، ويدل على دخوله فيه قوله قبله‏:‏ ‏{‏مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ‏}‏‏.‏

وبيّن في موضع آخر أن خصلة الصبر لا يُعطاها إلا صاحب حظٍ عظيم وبخت كبير، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ‏}‏، وبيّن في موضع آخر أن جزاء الصبر لا حساب له، وهو قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏‏.‏

‏{‏الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ‏}‏

، وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَـاوَاتِ وَالاٌّرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَـاطِلاً سُبْحَـانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ذكر في هذه الآية أن من جملة ما يقوله أُولوا الألباب تنزيه ربهم عن كونه خلق السماوات والأرض باطلاً، لا لحكمة سبحانه تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا‏.‏

وصرح في موضع آخر بأن الذين يظنون ذلك هم الكفار، وهددهم على ذلك الظن السَّيِّىء بالويل من النار، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ‏}‏‏.‏

‏{‏لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏

، وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ لم يبيّن هنا ما عنده للأبرار، ولكنه بيّن في موضع آخر أنه النعيم، وهو قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ‏}‏، وبيّن في موضع آخر أن من جملة ذلك النعيم الشرب من كأس ممزوجة بالكافور، وهو قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا‏}‏‏.‏

تم تفسير سورة آل عمران بحمد الله وتوفيقه

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الهدى

الهدى


عدد المساهمات : 326
التميز : 1
تاريخ التسجيل : 14/10/2009

تفسير اضواء البيان فى ايضاح القران بالقران - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: تفسير اضواء البيان فى ايضاح القران بالقران   تفسير اضواء البيان فى ايضاح القران بالقران - صفحة 2 Emptyالإثنين يناير 11, 2010 5:04 am

تفسير سورة النساء

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا‏}‏

‏.‏ وَءَاتُواْ الْيَتَـامَىا أَمْوَالَهُمْ أمر اللَّه تعالى في هذه الآية الكريمة بإيتاء اليتامى أموالهم، ولم يشترط هنا في ذلك شرطًا، ولكنه بيّن هذا أن هذا الإيتاء المأمور به مشروط بشرطين‏:‏

الأول‏:‏ بلوغ اليتامى‏.‏

والثاني‏:‏ إيناس الرشد منهم، وذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا‏}‏‏.‏

وتسميتهم يتامى في الموضعين، إنما هي باعتبار يتمهم الذي كانوا متصفين به قبل البلوغ، إذ لا يتم بعد البلوغ إجماعًا، ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ‏}‏، يعني الذين كانوا سحرة، إذ لا سحر مع السجود للَّه‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ معنى إيتائهم أموالهم إجراء النفقة والكسوة زمن الولاية عليهم‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ إذا بلغ خمسًا وعشرين سنة أعطي ماله على كل حال؛ لأنه يصير جدًا، ولا يخفى عدم اتجاهه، واللَّه تعالى أَعلم‏.‏

‏{‏وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا‏}‏، ذكر في هذه الآية الكريمة أن أكل أموال اليتامى حوب كبير، أي‏:‏ إثم عظيم، ولم يبيّن مبلغ هذا الحوب من العظم، ولكنه بيّنه في موضع آخر وهو قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا‏}‏‏.‏

‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا‏}‏

، وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى الْيَتَـامَىا فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ لا يخفى ما يسبق إلى الذهن في هذه الآية الكريمة من عدم ظهور وجه الربط بين هذا الشرط، وهذا الجزاء، وعليه، ففي الآية نوع إجمال، والمعنى كما قالت أم المؤمنين، عائشة رضي اللَّه عنها‏:‏ أنه كان الرجل تكون عنده اليتيمة في حجره، فإن كانت جميلة، تزوجها من غير أن يقسط في صداقها، وإن كانت دميمة رغب عن نكاحها وعضلها أن تنكح غيره؛ لئلا يشاركه في مالها، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا إليهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن، أي‏:‏ كما أنه يرغب عن نكاحها إن كانت قليلة المال، والجمال، فلا يحل له أن يتزوجها إن كانت ذات مال وجمال إلا بالإقساط إليها، والقيام بحقوقها كاملة غير منقوصة، وهذا المعنى الذي ذهبت إليه أم المؤمنين، عائشة، رضي اللَّه عنها، يبيّنه ويشهد له قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا‏}‏، وقالت رضي اللَّه عنها‏:‏ إن المراد بما يتلى عليكم في الكتاب هو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏، فتبين أنها يتامى النساء بدليل تصريحه بذلك في قوله‏:‏ ‏{‏فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ‏}‏، فظهر من هذا أن المعنى وإن خفتم ألا تقسطوا في زواج اليتيمات فدعوهن، وانكحوا ما طاب لكم من النساء سواهن، وجواب الشرط دليل واضح على ذلك؛ لأن الربط بين الشرط والجزاء يقتضيه، وهذا هو أظهر الأقوال؛ لدلالة القرءَان عليه، وعليه فاليتامى جمع يتيمة على القلب، كما قيل أيامى والأصل أيائم ويتائم لما عرف أن جمع الفعلية فعائل، وهذا القلب يطرد في معتل اللام كقضية، ومطية، ونحو ذلك ويقصر على السماع فيما سوى ذلك‏.‏

قال ابن خويز منداد‏:‏ يؤخذ من هذه الآية جواز اشتراء الوصي وبيعه من مال اليتيم لنفسه بغير محاباة، وللسلطان النظر فيما وقع من ذلك، وأخذ بعض العلماء من هذه الآية أن الولي إذا أراد نكاح من هو وليها جاز أن يكون هو الناكح والمنكح وإليه ذهب مالك، وأبو حنيفة، والأوزاعي، والثوري، وأبو ثور، وقاله من التابعين‏:‏ الحسن وربيعة وهو قول الليث‏.‏

وقال زفر والشافعي‏:‏ لا يجوز له أن يتزوجها إلا بإذن السلطان، أو يزوجها ولي آخر أقرب منه أو مساو له‏.‏

وقال أحمد في إحدى الروايتين‏:‏ يوكل رجلاً غيره فيزوجها منه، وروي هذا عن المغيرة بن شعبة، كما نقله القرطبي، وغيره‏.‏

وأخذ مالك بن أنس من تفسير عائشة لهذه الآية، كما ذكرنا الرد إلى صداق المثل فيما فسد من الصداق، أو وقع الغبن في مقداره؛ لأن عائشة رضي اللَّه عنها، قالت‏:‏ ‏"‏ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق‏"‏، فدلّ على أن للصداق سنة معروفة لكل صنف من الناس على قدر أحوالهم، وقد قال مالك‏:‏ للناس مناكح عرفت لهم، وعرفوا لها يعني مهورًا وأكفاء‏.‏

ويؤخذ أيضًا من هذه الآية جواز تزويج اليتيمة إذا أعطيت حقوقها وافية، وما قاله كثير من العلماء من أن اليتيمة لا تزوج حتى تبلغ، محتجين بأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء‏}‏، اسم ينطلق على الكبار دون الصغار، فهو ظاهر السقوط؛ لأن اللَّه صرح بأنهن يتامى، بقوله‏:‏ ‏{‏فِي يَتَامَى النِّسَاء‏}‏، وهذا الاسم أيضًا قد يطلق على الصغار، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ‏}‏، وهن إذ ذاك رضيعات فالظاهر المتبادر من الآية جواز نكاح اليتيمة مع الإقساط في الصداق، وغيره من الحقوق‏.‏

ودلّت السنّة على أنها لا تجبر، فلا تزوج إلا برضاها، وإن خالف في تزويجها خلق كثير من العلماء‏.‏

تنبيــه

‏:‏ قال القرطبي في تفسير هذه الآية ما نصه‏:‏ واتفق كل من يعاني العلوم على أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى‏}‏، ليس له مفهوم إذ قد أجمع المسلمون على أن من لم يخف القسط في اليتامى له أن ينكح أكثر من واحدة، اثنتين، أو ثلاثًا، أو أربعًا، كمن خاف فدلّ على أن الآية نزلت جوابًا لمن خاف ذلك وأن حكمها أعم من ذلك‏.‏ا هـ منه بلفظه‏.‏

قال مقيده عفا اللَّه عنه‏:‏ الذي يظهر في الآية على ما فسرتها به عائشة، وارتضاه القرطبي، وغير واحد من المحققين ودلّ عليه القرءَان‏:‏ أن لها مفهومًا معتبرً؛ لأن معناها‏:‏ وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتيمات فانكحوا ما طاب لكم من سواهن، ومفهومه أنهم إن لم يخافوا عدم القسط لم يؤمروا بمجاوزتهن إلى غيرهن، بل يجوز لهم حينئذ الاقتصار عليهن وهو واضح كما ترى، إلا أنه تعالى لما أمر بمجاوزتهن إلى غيرهن عند خوفهم أن لا يقسطوا فيهن، أشار إلى القدر الجائز من تعدد الزوجات، ولا إشكال في ذلك، واللَّه أعلم‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ معنى الآية ‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى‏}‏، أي‏:‏ إن خشيتم ذلك فتحرجتم من ظلم اليتامى، فاخشوا أيضًا وتحرجوا من ظلم النساء بعدم العدل بينهن، وعدم القيام بحقوقهن، فقللوا عدد المنكوحات ولا تزيدوا على أربع، وإن خفتم عدم إمكان ذلك مع التعدد فاقتصروا على الواحدة؛ لأن المرأة شبيهة باليتيم، لضعف كل واحد منهما وعدم قدرته على المدافعة عن حقه فكما خشيتم من ظلمه فاخشوا من ظلمها‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ كانوا يتحرجون من ولاية اليتيم ولا يتحرجون من الزنى، فقيل لهم في الآية‏:‏ إن خفتم الذنب في مال اليتيم فخافوا ذنب الزنى، فانكحوا ما طاب لكم من النساء ولا تقربوا الزنا‏.‏ وهذا أبعد الأقوال فيما يظهر واللَّه تعالى أعلم‏.‏

ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أيضًا‏:‏ أن من كان في حجره يتيمة لا يجوز له نكاحها إلا بتوفيته حقوقها كاملة، وأنه يجوز نكاح أربع ويحرم الزيادة عليها، كما دل على ذلك أيضًا إجماع المسلمين قبل ظهور المخالف الضال، وقوله صلى الله عليه وسلم لغيلان بن سلمة‏:‏ ‏"‏اختر منهن أربعًا وفارق سائرهن‏"‏‏.‏ وكذا قال للحارث بن قيس الأسدي وأنه مع خشية عدم العدل لا يجوز نكاح غير واحدة والخوف في الآية، قال بعض العلماء‏:‏ معناه الخشية، وقال بعض العلماء‏:‏ معناه العلم، أي‏:‏ ‏{‏وأن‏}‏ علمتم ‏{‏ألا تقسطوا‏}‏، ومن إطلاق الخوف بمعنى العلم‏.‏ قول أبي محجن الثقفي‏:‏ إذا مت فادفني إلى جنب كرمة تروي عظامي في الممات عروقها

ولا تدفنني بالفلاة فإنني أخاف إذا ما مت ألا أذوقها


فقوله أخاف‏:‏ يعني أعلم‏.‏

تنبيــه

عبّر تعالى عن النساء في هذه الآية بما التي هي لغير العاقل في قوله‏:‏ ‏{‏فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء‏}‏، ولم يقل من طاب؛ لأنها هنا أريد بها الصفات لا الذوات‏.‏ أي‏:‏ ما طاب لكم من بكر أو ثيب، أو ما طاب لكم لكونه حلالاً، وإذا كان المراد الوصف عبر عن العاقل بما كقولك ما زيد في الاستفهام تعنى أفاضل‏؟‏‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ عبر عنهن بـ ‏{‏مَا‏}‏ إشارة إلى نقصانهن وشبههن بما لا يعقل حيث يؤخذ بالعوض، واللَّه تعالى أعلم‏.‏

‏{‏لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا‏}‏، لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالاٌّقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالاٌّقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً لم يبيّن هنا قدر هذا النصيب الذي هو للرجال والنساء مما ترك الوالدان والأقربون، ولكنه بيّنه في آيات المواريث كقوله‏:‏ ‏{‏يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ‏}‏، وقوله في خاتمة هذه السورة الكريمة‏:‏ ‏{‏يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ‏}‏‏.‏

‏{‏يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيمًا‏}‏

، يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِىا أَوْلَـادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الاٍّنْثَيَيْنِ لم يبيّن هنا حكمة تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث مع أنهما سواء في القرابة‏.‏ ولكنه أشار إلى ذلك في موضع آخر وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا‏}‏؛ لأن القائم على غيره المنفق ماله عليه مترقب للنقص دائمًا، والمقوم عليه المنفق عليه المال مترقب للزيادة دائمًا، والحكمة في إيثار مترقب النقص على مترقب الزيادة جبرًا لنقصة المترقبة ظاهرة جدًا‏.‏

‏{‏فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيمًا‏}‏، صرّح تعالى في هذه الآية الكريمة بأن البنات إن كن ثلاثًا فصاعدًا، فلهن الثلثان وقوله‏:‏ ‏{‏فوق اثنتين‏}‏ يوهم أن الاثنتين ليستا كذلك، وصرّح بأن الواحدة لها النصف، ويفهم منه أن الاثنتين ليستا كذلك أيضًا، وعليه ففي دلالة الآية على قدر ميراث البنتين إجمال‏.‏

وقد أشار تعالى في موضعين إلى أن هذا الظرف لا مفهوم مخالفة له، وأن للبنتين الثلثين أيضًا‏.‏

الأول قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ‏}‏، إذ الذكر يرث مع الواحدة الثلثين بلا نزاع، فلا بد أن يكون للبنتين الثلثان في صورة، وإلا لم يكن للذكر مثل حظ الأنثيين؛ لأن الثلثين ليسا بحظ لهما أصلاً، لكن تلك الصورة ليست صورة الاجتماع، إذ ما من صورة يجتمع فيها الابنتان مع الذكر ويكون لهما الثلثان، فتعين أن تكون صورة انفرادهما عن الذكر‏.‏ واعتراض بعضهم هذا الاستدلال بلزوم الدور قائلاً‏:‏ إن معرفة أن للذكر الثلثين في الصورة المذكورة تتوقف على معرفة حظ الأنثيين؛ لأنه ما علم من الآية إلا أن للذكر مثل حظ الأنثتين، فلو كانت معرفة حظ الأنثيين مستخرجة من حظ الذكر لزم الدور ساقط؛ لأن المستخرج هو الحظ المعين للأنثيين وهو الثلثان، والذي يتوقف عليه معرفة حظ الذكر هو معرفة حظ الأنثيين مطلقًا، فلا دور لانفكاك الجهة، واعترضه بعضهم أيضًا بأن للابن مع البنتين النصف، فيدل على أن فرضهما النصف، ويؤيد الأول أن البنتين لما استحقتا مع الذكر النصف علم أنهما إن انفردتا عنه، استحقتا أكثر من ذلك؛ لأن الواحدة إذا انفردت أخذت النصف، بعدما كانت معه تأخذ الثلث، ويزيده إيضاحًا أن البنت تأخذ مع الابن الذكر الثلث بلا نزاع، فلأن تأخذه مع الابنة الأنثى أولى‏.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الهدى

الهدى


عدد المساهمات : 326
التميز : 1
تاريخ التسجيل : 14/10/2009

تفسير اضواء البيان فى ايضاح القران بالقران - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: تفسير اضواء البيان فى ايضاح القران بالقران   تفسير اضواء البيان فى ايضاح القران بالقران - صفحة 2 Emptyالإثنين يناير 11, 2010 5:05 am


فبهذا يظهر أنه جلّ وعلا، أشار إلى ميراث البنتين بقوله‏:‏ ‏{‏فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏، كما بيّنا، ثم ذكر حكم الجماعة من البنات، وحكم الواحدة منهنّ بقوله‏:‏ ‏{‏فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيمًا‏}‏، ومما يزيده إيضاحًا، أنه تعالى فرعه عليه بالفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِن كُنَّ‏}‏، إذ لو لم يكن فيما قبله ما يدل على سهم الإناث لم تقع الفاء موقعها كما هو ظاهر‏.‏

الموضع الثاني‏:‏ هو قوله تعالى في الأختين‏:‏ ‏{‏فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ‏}‏؛ لأن البنت أمس رحمًا، وأقوى سببًا في الميراث من الأخت بلا نزاع‏.‏

فإذا صرح تعالى‏:‏ بأن للأختين الثلثين، علم أن البنتين كذلك من باب أولى، وأكثر العلماء على أن فحوى الخطاب، أعني‏:‏ مفهوم الموافقة الذي المسكوت فيه أولى بالحكم من المنطوق، من قبيل دلالة اللفظ لا من قبيل القياس، خلافًا للشافعي وقوم، كما علم في الأصول فاللَّه تبارك وتعالى لمّا بيّن أن للأختين الثلثين، أفهم بذلك أن البنتين كذلك من باب أولى‏.‏

وكذلك لما صرح أن لما زاد على الاثنتين من البنات الثلثين فقط، ولم يذكر حكم ما زاد على الاثنتين من الأخوات، أفهم أيضًا من باب أولى أنه ليس لما زاد من الأخوات غير الثلثين؛ لأنه لما لم يعط للبنات علم أنه لا تستحقه الأخوات، فالمسكوت عنه في الأمرين أولى بالحكم من المنطوق به، وهو دليل على أنه قصد أخذه منه، ويزيد ما ذكرنا إيضاحًا ما أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، عن جابر رضي اللَّه عنه، قال‏:‏ جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقالت‏:‏ يا رسول اللَّه، هاتان ابنتا سعد قتل أبوهما يوم أُحد، وإن عمهما أخذ مالهما، ولم يدع لهما مالاً، ولا ينكحان إلا ولهما مال، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يقضي اللَّه تعالى في ذلك‏"‏، فنزلت آية الميراث فبعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى عمهما، فقال‏:‏ ‏"‏اعط ابنتي سعد الثلثين، واعط أمهما الثمن، وما بقي فهو لك‏"‏‏.‏

وما روى عن ابن عباس، رضي اللَّه عنهما، من أنه قال‏:‏ للبنتين النصف؛ لأن اللَّه تعالى، قال‏:‏ ‏{‏فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ‏}‏، فصرح بأن الثلثين إنما هما لما فوق الاثنتين فيه أمور‏.‏

الأول‏:‏ أنه مردود بمثله؛ لأن اللَّه قال أيضًا‏:‏ ‏{‏وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ‏}‏، فصرح بأن النصف للواحدة جاعلاً كونها واحدة شرطًا معلقًا عليه فرض النصف‏.‏

وقد تقرر في الأصول أن المفاهيم إذا تعارضت قدم الأقوى منها، ومعلوم أن مفهوم الشرط أقوى من مفهوم الظرف؛ لأن مفهوم الشرط لم يقدم عليه من المفاهيم، إلا ما قال فيه بعض العلماء‏:‏ إنه منطوق لا مفهوم وهو النفي والإثبات، وإنما من صيغ الحصر والغاية، وغير هذا يقدم عليه مفهوم الشرط، قال في ‏"‏مراقي السعود‏"‏ مبينًا مراتب مفهوم المخالفة‏:‏ أعلاه لا يرشد إلا العلما فما لمنطوق بضعف انتمى

فالشرط فالوصف الذي يناسب فمطلق الوصف الذي يقارب

فعدد ثمت تقديم يلي وهو حجة على النهج الجلي


وقال صاحب ‏"‏جمع الجوامع‏"‏ ما نصه‏:‏ مسألة الغاية قيل‏:‏ منطوق والحق مفهوم يتلوه الشرط، فالصفة المناسبة، فمطلق الصفة غير العدد، فالعدد، فتقديم المعمول إلخ‏.‏

وبهذا تعلم أن مفهوم الشرط في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ‏}‏، أقوى من مفهوم الظرف في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ‏}‏‏.‏

الثاني‏:‏ دلالة الآيات المتقدمة على أن للبنتين الثلثين‏.‏

الثالث‏:‏ تصريح النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك في حديث جابر المذكور آنفًا‏.‏

الرابع‏:‏ أنه روي عن ابن عباس الرجوع عن ذلك‏.‏

قال الألوسي في ‏"‏تفسيره‏"‏ ما نصه‏:‏ وفي ‏"‏ شرح الينبوع ‏"‏ نقلاً عن الشريف شمس الدين الأرموني أنه قال في ‏"‏شرح فرائض الوسيط‏"‏‏:‏ صح رجوع ابن عباس، رضي اللَّه عنهما، عن ذلك فصار إجماعًا‏.‏ا هـ منه بلفظه‏.‏ تنبيهــان

الأول‏:‏ ما ذكره بعض العلماء وجزم به الألوسي في ‏"‏تفسيره‏"‏ من أن المفهوم في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ‏}‏، مفهوم عدد غلط‏.‏ والتحقيق هو ما ذكرنا من أنه مفهوم شرط، وهو أقوى من مفهوم العدد بدرجات كما رأيت فيما تقدم‏.‏

قال في ‏"‏نشر البنود على مراقي السعود‏"‏ في شرح قوله‏:‏ وهو ظرف علة وعدد ومنه شرط غاية تعتمد


ما نصه‏:‏ والمراد بمفهوم الشرط ما فهم من تعليق حكم على شىء بأداة شرط كإن وإذا، وقال في شرح هذا البيت أيضًا قبل هذا ما نصه‏:‏ ومنها الشرط نحو‏:‏ ‏{‏أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى‏}‏، مفهوم انتفاء المشروط عند انتفاء الشرط، أي‏:‏ فغير أولات حمل لا يجب الإنفاق عليهن ونحو من تطهر صحت صلاته‏.‏اهـ منه بلفظه‏.‏

فكذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ‏}‏، علق فيه فرض النصف على شرط هو كون البنت واحدة، ومفهومه أنه إن انتفى الشرط الذي هو كونها واحدة انتفى المشروط الذي هو فرض النصف كما هو ظاهر، فإن قيل‏:‏ كذلك المفهوم في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ‏}‏؛ لتعليقه بالشرط فالجواب من وجهين‏:‏

الأول‏:‏ أن حقيقة الشرط كونهن نساء‏.‏ وقوله فوق اثنتين وصف زائد، وكونها واحدة هو نفس الشرط لا وصف زائد، وقد عرفت تقديم مفهوم الشرط على مفهوم الصفة ظرفًا كانت أو غيره‏.‏

الثاني‏:‏ أنا لو سلمنا جدليًا أنه مفهوم شرط لتساقط المفهومان لاستوائهما ويطلب الدليل من خارج، وقد ذكرنا الأدلة على كون البنتين ترثان الثلثين كما تقدم‏.‏

الثاني‏:‏ إن قيل‏:‏ فما الفائدة في لفظة ‏{‏فَوْقَ اثْنَتَيْنِ‏}‏ إذا كانت الاثنتان كذلك ‏؟‏ فالجواب من وجهين‏:‏

الأول‏:‏ هو ما ذكرنا من أن حكم الاثنتين أخذ من قوله قبله‏:‏ ‏{‏فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ‏}‏، كما تقدم وإذن قوله‏:‏ ‏{‏فَوْقَ اثْنَتَيْنِ‏}‏، تنصيص على حكم الثلاث فصاعدًا كما تقدم‏.‏

الثاني‏:‏ أن لفظة فوق ذكرت لإفادة أن البنات لا يزدن على الثلثين ولو بلغ عددهن ما بلغ‏.‏

وأما ادعاء أن لفظة فوق زائدة وادعاء أن فوق اثنتين معناه اثنتان فما فوقهما فكله ظاهر السقوط كما ترى، والقرءَان ينزه عن مثله وإن قال به جماعة من أهل العلم‏.‏

‏{‏وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ‏}‏

، أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَـالَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوااْ أَكْثَرَ مِن ذالِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِى الثُّلُثِ المراد في هذه الآية بالإخوة الذين يأخذ المنفرد منهم السدس وعند التعدد يشتركون في الثلث ذكرهم وأنثاهم، سواء أخوة الأم بدليل بيانه تعالى أن الإخوة من الأب أشقاء أو لا، يرث الواحد منهم كل المال، وعند اجتماعهم يرثون المال كله للذكر مثل حظ الأنثيين‏.‏

وقال في المنفرد منهم وهو يرثها إن لم يكن لها ولد، وقال في جماعتهم‏:‏ وإن كانوا إخوة رجالاً ونساء ‏{‏فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ‏}‏‏.‏ وقد أجمع العلماء على أن هؤلاء الإخوة من الأب، كانوا أشقاء أو لأب‏.‏ كما أجمعوا أن قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً‏}‏، أنها في إخوة الأم، وقرأ سعد بن أبي وقاص وله أخ أو أخت من أم‏.‏ والتحقيق أن المراد بالكلالة عدم الأصول والفروع، كما قال الناظم‏:‏ ويسألونك عن الكلالة هي انقطاع النسل لا محالة

لا والد يبقى ولا مولود فانقطع الأبناء والجدود

وهذا قول أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه وأكثر الصحابة وهو الحقّ إن شاء اللَّه تعالى‏.‏ واعلم أن الكلالة تطلق على القرابة من غير جهة الولد والوالد، وعلى الميّت الذي لم يخلف والدًا ولا ولدًا، وعلى الوارث الذي ليس بوالد ولا ولد، وعلى المال الموروث عمن ليس بوالد ولا ولد؛ إلا أنه استعمال غير شائع واختلف في اشتقاق الكلالة‏.‏

واختار كثير من العلماء أن أصلها من تكلله إذا أحاط به ومنه الإكليل لإحاطته بالرأس، والكل لإحاطته بالعدد؛ لأن الورثة فيها محيطة بالميت من جوانبه لا من أصله ولا فرعه‏.‏ وقال بعض العلماء‏:‏ أصلها من الكلال بمعنى الإعياء؛ لأن الكلالة أضعف من قرابة الآباء والأبناء‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ أصلها من الكل بمعنى الظهر وعليه فهي ما تركه الميّت وراء ظهره، واختلف في إعراب قوله كلالة‏.‏ فقال بعض العلماء‏:‏ هي حال من نائب فاعل يورث على حذف مضاف، أي‏:‏ يورث في حال كونه ذا كلالة أي قرابة غير الآباء والأبناء، واختاره الزجاج وهو الأظهر، وقيل‏:‏ هي مفعول له، أي‏:‏ يورث لأجل الكلالة أي القرابة، وقيل‏:‏ هي خبر كان، ويورث صفة لرجل، أي‏:‏ كان رجل موروث ذا كلالة ليس بوالد ولا ولد، وقيل غير ذلك، واللَّه تعالى أعلم‏.‏

‏{‏وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا‏}‏

، فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ حَتَّىا يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً لم يبيّن هنا هل جعل لهن سبيلاً أو لا ‏؟‏ ولكنه بيّن في مواضع أُخر أنه جعل لهن السبيل بالحد كقوله في البكر‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏، وقوله في الثيب‏:‏ ‏(‏الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من اللَّه واللَّه عزيز حكيم‏)‏؛ لأن هذه الآية باقية الحكم كما صح عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه وأرضاه وإن كانت منسوخة التلاوة‏.‏

وروي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن حكم الرجم مأخوذ أيضًا من آية أخرى محكمة غير منسوخة التلاوة، وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ‏}‏، فإنها نزلت في اليهودي واليهودية اللذين زنيا وهما محصنان ورجمهما النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذمه تعالى في هذا الكتاب للمعرض عما في التوراة من رجم الزاني المحصن، دليل قرءَاني واضح على بقاء حكم الرجم، ويوضح ما ذكرنا من أنه تعالى جعل لهن السبيل بالحد، قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح‏:‏ ‏"‏خذوا عني، قد جعل اللَّه لهن سبيلاً‏"‏ الحديث‏.‏

‏{‏وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاء سَبِيلاً‏}‏

، وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَاؤُكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ نهى اللَّه تعالى في هذه الآية الكريمة عن نكاح المرأة التي نكحها الأب، ولم يبيّن ما المراد بنكاح الأب هل هو العقد أو الوطء، ولكنّه بيّن في موضع آخر أن اسم النكاح يطلق على العقد وحده، وإن لم يحصل مسيس وذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً‏}‏، فصرح بأنه نكاح وأنه لا مسيس فيه‏.‏

وقد أجمع العلماء على أن من عقد عليها الأب حرمت على ابنه، وإن لم يمسها الأب، وكذلك عقد الابن محرّم على الأب إجماعًا، وإن لم يمسها وقد أطلق تعالى النكاح في آية أخرى مريدًا به الجماع بعد العقد، وذلك في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ‏}‏؛ لأن المراد بالنكاح هنا ليس مجرد العقد، بل لا بد معه من الوطء، كما قال صلى الله عليه وسلم لامرأة رفاعة القرظي‏:‏ ‏"‏لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك‏"‏، يعني الجماع ولا عبرة بما يروى من المخالفة عن سعيد بن المسيِّب؛ لوضوح النص الصريح الصحيح في عين المسألة‏.‏

ومن هنا قال بعض العلماء لفظ النكاح مشترك بين العقد والجماع، وقال بعضهم هو حقيقة في الجماع مجاز في العقد؛ لأنه سببه وقال بعضهم بالعكس‏.‏

تنبيــه

قال بعض العلماء‏:‏ إن لفظة ‏{‏مَا‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاء سَبِيلاً‏}‏، مصدرية وعليه فقوله من النساء متعلق بقوله‏:‏ ‏{‏تَنكِحُواْ‏}‏، لا بقوله نكح، وتقرير المعنى على هذا القول ولا تنكحوا من النساء نكاح آبائكم، أي‏:‏ لا تفعلوا ما كان يفعله آباؤكم من النكاح الفاسد، وهذا القول هو اختيار ابن جرير، والذي يظهر وجزم به غير واحد من المحققين أن ‏{‏مَا‏}‏ موصولة واقعة على النساء التي نكحها الآباء، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء‏}‏، وقد قدمنا وجه ذلك؛ لأنهم كانوا ينكحون نساء آبائهم كما يدل له سبب النزول، فقد نقل ابن كثير عن أبي حاتم أن سبب نزولها أنه لما توفي أبو قيس بن الأسلت خطب ابنه امرأته، فاستأذنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقال‏:‏ ‏"‏ارجعي إلى بيتك‏"‏، فنزلت‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم‏}‏‏.‏

قال مقيّده عفا اللَّه عنه‏:‏ نكاح زوجات الآباء كان معروفًا عند العرب، وممن فعل ذلك أبو قيس بن الأسلت المذكور، فقد تزوج أم عبيد اللَّه وكانت تحت الأسلت إبيه، وتزوج الأسود بن خلف ابنة أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار وكانت تحت أبيه خلف، وتزوج صفوان بن أمية فاختة ابنة الأسود بن المطلب بن أسد، وكانت تحت أبيه أمية، كما نقله ابن جرير عن عكرمة قائلاً إنه سبب نزول الآية، وتزوج عمرو بن أمية زوجة أبيه بعده، فولدت له مسافرًا وأبا معيط، وكان لها من أمية أبو العيص وغيره، فكانوا إخوة مسافر وأبي معيط وأعمامهما، وتزوج منظور بن زبان بن سيار الفزاري زوجة أبيه مليكة بنت خارجة، كما نقله القرطبي وغيره ومليكة هذه هي التي قال فيها منظور المذكور بعد أن فسخ نكاحها منه عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه‏:‏ ألا لا أبالي اليوم ما فعل الدهر إذا منعت مني مليكة والخمر

فإن تك قد أمست بعيدًا مزارها فحيّ ابنة المري ما طلع الفجر


وأشار إلى تزويج منظور هذا زوجة أبيه ناظم عمود النسب،

بقوله في ذكر مشاهير فزارة‏:‏ منظور الناكح مقتًا وحلف خمسين ما له على منع وقف


وقوله‏:‏ وحلف إلخ‏.‏

قال شارحه‏:‏ إن معناه أن عمر بن الخطاب حلفه خمسين يمينًا بعد العصر في المسجد أنه لم يبلغه نسخ ما كان عليه أهل الجاهلية من نكاح أزواج الآباء، وذكر السهيلي وغيره أن كنانة بن خزيمة تزوج زوجة أبيه خزيمة فولدت له النضر بن كنانة، قال‏:‏ وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ولدت من نكاح لا من سفاح‏"‏، فدلّ على أن ذلك كان سائغًا لهم‏.‏

قال ابن كثير وفيما نقله السهيلي من قصة كنانة نظر، وأشار إلى تضعيف ما ذكره السهيلي ناظم عمود النسب بقوله‏:‏ وهند بنت مر أم حارثة شخيصة وأم عنز ثالثة

برة أختها عليها خلفا كنانة خزيمة وضعفا

أختهما عاتكة ونسلها عذرة التي الهوى يقتلها


وذكر شارحه أن الذي ضعف ذلك هو السهيلي نفسه، خلافًا لظاهر كلام ابن كثير ومعنى الأبيات أن هند بنت مر أخت تميم بن مر بن أدبن طابخة بن إلياس هي أم ثلاثة من أولاد وائل بن قاسط وهم الحارث وشخيص وعنز، وأن أختها برة بنت مر كانت زوجة خزيمة بن مدركة، فتزوجها بعد ابنه كنانة، وأن ذلك مضعف، وأن أختهما عاتكة بنت مر هي أم عذرة أبي القبيلة المشهورة بأن الهوى يقتلها، وقد كان من مختلقات العرب في الجاهلية إرث الأقارب أزواج أقاربهم، كان الرجل منهم إذا مات وألقى ابنه أو أخوه مثلاً ثوبًا على زوجته ورثها وصار أحق بها من نفسها، إن شاء نكحها بلا مهر وإن شاء أنكحها غيره وأخذ مهرها، وإن شاء عضلها حتى تفتدي منه، إلى أن نهاهم اللَّه عن ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا‏}‏، وأشار إلى هذا ناظم عمود النسب بقوله‏:‏ القول فيما اختلفوا واخترقوا ولم يقد إليه إلا النزق


ثم شرع يعدد مختلقاتهم، إلى أن قال‏:‏ وأن من ألقى على زوج أبيه ونحوه بعد التوى ثوبًا يريه

أولى بها من نفسها إن شاء نكح أو أنكح أو أساء

بالعضل كي يرثها أو تفتدى ومهرها في النكحتين للردى


وأظهر الأقوال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ‏}‏، أن الاستثناء منقطع، أي لكن ما مضى من ارتكاب هذا الفعل قبل التحريم فهو معفو عنه كما تقدم، والعلم عند اللَّه تعالى‏.‏

‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا‏}‏

، وَحَلَـائِلُ أَبْنَآئِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَـابِكُمْ يفهم منه أن حليلة دعيه الذي تبناه لا تحرم عليه، وهذا المفهوم صرّح به تعالى في قوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ‏}‏‏.‏

أما تحريم منكوحة الابن من الرضاع فهو مأخوذ من دليل خارج وهو تصريحه صلى الله عليه وسلم بأنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، والعلم عند اللَّه تعالى‏.‏

‏{‏وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا‏}‏

وَالْمُحْصَنَـاتُ مِنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَـانُكُمْ اعلم أولاً أن لفظ المحصنات أطلق في القرءان ثلاثة إطلاقات‏:‏

الأول‏:‏ المحصنات العفائف، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ‏}‏، أي عفائف غير زانيات‏.‏

الثاني‏:‏ المحصنات الحراير، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ‏}‏، أي على الإماء نصف ما على الحرائر من الجلد‏.‏

الثالث‏:‏ أن يراد بالإحصان التزوج، ومنه على التحقيق قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ‏}‏ الآية، أي‏:‏ فإذا تزوجن‏.‏ وقول من قال من العلماء‏:‏ إن المراد بالإحصان في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا أُحْصِنَّ‏}‏، الإسلام خلاف الظاهر من سياق الآية؛ لأن سياق الآية في الفتيات المؤمنات حيث قال‏:‏ ‏{‏وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً‏}‏‏.‏

قال ابن كثير في تفسير هذه الآية ما نصّه‏:‏ والأظهر واللَّه أعلم أن المراد بالإحصان ها هنا التزويج؛ لأن سياق الآية يدلّ عليه حيث يقول سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ‏}‏، واللَّه أعلم‏.‏ والآية الكريمة سياقها في الفتيات المؤمنات، فتعين أن المراد بقوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا أُحْصِنَّ‏}‏، أي تزوجن كما فسره ابن عباس وغيره‏.‏ اهـ محل الغرض منه بلفظه‏.‏

فإذا علمت ذلك فاعلم أن في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ‏}‏، أوجه من التفسير هي أقوال للعلماء، والقرءان يفهم منه ترجيح واحد معيّن منها‏.‏

قال بعض العلماء‏:‏ المراد بالمحصنات هنا أعم من العفائف والحرائر والمتزوجات، أي حرّمت عليكم جميع النساء إلا ما ملكت أيمانكم بعقد صحيح أو ملك شرعي بالرق، فمعنى الآية على هذا القول تحريم النساء كلهن إلا بنكاح صحيح أو تَسَرٍّ شرعي، وإلى هذا القول ذهب سعيد بن جبير وعطاء والسدي، وحكي عن بعض الصحابة واختاره مالك في ‏"‏الموطأ‏"‏‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ المراد بالمحصنات في الآية الحرائر، وعليه فالمعنى وحرمت عليكم الحرائر غير الأربع، وأحلّ لكم ما ملكت أيمانكم من الإماء، وعليه فالاستثناء منقطع‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ المراد بالمحصنات‏:‏ المتزوجات، وعليه فمعنى الآية وحرّمت عليكم المتزوجات؛ لأن ذات الزوج لا تحل لغيره إلا ما ملكت أيمانكم بالسبي من الكفار، فإن السبي يرفع حكم الزوجية الأولى في الكفر وهذا القول هو الصحيح، وهو الذي يدلّ القرءان لصحته؛ لأن القول الأول فيه حمل ملك اليمين على ما يشمل ملك النكاح، وملك اليمين لم يرد في القرءان إلا بمعنى الملك بالرق، كقوله‏:‏ ‏{‏فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ‏}‏، في الموضعين، فجعل ملك اليمين قسمًا آخر غير الزوجية‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ‏}‏، فهذه الآيات تدل على أن المراد بما ملكت أيمانكم الإماء دون المنكوحات كما هو ظاهر، وكذلك الوجه الثاني غير ظاهر؛ لأن المعنى عليه‏:‏ وحرّمت عليكم الحرائر إلا ما ملكت أيمانكم، وهذا خلاف الظاهر من معنى لفظ الآية كما ترى‏.‏

وصرّح ابن القيم، بأن هذا القول مردود لفظًا ومعنى، فظهر أن سياق الآية يدلّ على المعنى الذي اخترنا، كما دلّت عليه الآيات الأخر التي ذكرنا، ويؤيده سبب النزول؛ لأن سبب نزولها كما أخرجه مسلم في ‏"‏صحيحه‏"‏ والإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وعبد الرزاق عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه قال‏:‏ أصبنا سبيًا من سبي أوطاس ولهنّ أزواج فكرهنا أن نقع عليهن ولهن أزواج، فسألنا النبيّ صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ‏}‏، فاستحللنا فروجهن‏.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الهدى

الهدى


عدد المساهمات : 326
التميز : 1
تاريخ التسجيل : 14/10/2009

تفسير اضواء البيان فى ايضاح القران بالقران - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: تفسير اضواء البيان فى ايضاح القران بالقران   تفسير اضواء البيان فى ايضاح القران بالقران - صفحة 2 Emptyالإثنين يناير 11, 2010 5:06 am


وروى الطبراني عن ابن عباس أنها نزلت في سبايا خيبر، ونظير هذا التفسير الصحيح

قول الفرزدق‏:‏ وذات حليل أنكحتها رماحنا حلال لمن يبني بها لم تطلق


تنبيــه

فإن قيل‏:‏ عموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ‏}‏، لا يختص بالمسبيات، بل ظاهر هذا العموم أن كل أمة متزوجة إذا ملكها رجل آخر فهي تحل له بملك اليمين ويرتفع حكم الزوجية بذلك الملك، والآية وإن نزلت في خصوص المسبيات كما ذكرنا، فالعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، فالجواب‏:‏ أن جماعة من السلف قالوا بظاهر هذا العموم فحكموا بأن بيع الأمة مثلاً يكون طلاقًا لها من زوجها أخذًا بعموم هذه الآية، ويروى هذا القول عن ابن مسعود، وابن عباس، وأُبي بن كعب، وجابر بن عبد اللَّه، وسعيد بن المسيِّب، والحسن ومعمر، كما نقله عنهم ابن كثير وغيره، ولكن التحقيق في هذه المسألة هو ما ذكرنا من اختصاص هذا الحكم بالمسبيات دون غيرها من المملوكات بسبب آخر غير السبي، كالبيع مثلاً وليس من تخصيص العام بصورة سببه‏.‏ وأوضح دليل في ذلك قصة بريرة المشهورة مع زوجها مغيث‏.‏

قال ابن كثير في تفسير هذه الآية بعد ذكره أقوال الجماعة التي ذكرنا في أن البيع طلاق، ما نصه‏:‏ وقد خالفهم الجمهور قديمًا وحديثًا، فرأوا أن بيع الأمة ليس طلاقًا لها؛ لأن المشتري نائب عن البائع، والبائع كان قد أخرج عن ملكه هذه المنفعة، وباعها مسلوبة عنه، واعتمدوا في ذلك على حديث بريرة المخرج في ‏"‏الصحيحين‏"‏ وغيرهما، فإن عائشة أم المؤمنين اشترتها وأعتقتها ولم ينفسخ نكاحها من زوجها مغيث، بل خيّرها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين الفسخ والبقاء، فاختارت الفسخ وقصتها مشهورة، فلو كان بيع الأمة طلاقها كما قال هؤلاء، ما خيّرها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما خيّرها دلّ على بقاء النكاح، وأن المراد من الآية المسبيات فقط، واللَّه أعلم‏.‏ اهـ ـ منه لفظه‏.‏

فإن قيل‏:‏ إن كان المشتري امرأة لم ينفسخ النكاح؛ لأنها لا تملك الاستمتاع ببضع الأمة، بخلاف الرجل، وملك اليمين أقوى من ملك النكاح، كما قال بهذا جماعة، ولا يرد على هذا القول حديث بريرة، فالجواب هو ما حرره ابن القيّم، وهو أنها إن لم تملك الاستمتاع ببضع أمتها، فهي تملك المعاوضة عليه وتزويجها وأخذ مهرها، وذلك كملك الرجل وإن لم تستمتع بالبضع، فإذا حققت ذلك، علمت أن التحقيق في معنى الآية وحرمت عليكم ‏{‏المحصنات‏}‏ أي المتزوجات، ‏{‏إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ‏}‏ بالسبي من الكفار، فلا منع في وطئهن بملك اليمين بعد الاستبراء، لانهدام الزوجية الأولى بالسبي كما قررنا، وكانت أم المؤمنين جويرية بنت الحارث رضي اللَّه عنها متزوجة برجل اسمه مسافع، فسبيت في غزوة بني المصطلق وقصتها معروفة‏.‏ قال ناظم قرة الأبصار في جويرية رضي اطللَّه عنها‏:‏ وقد سباها في غزاة المصطلق من بعلها مسافع بالمنزلق ومراده بالمنزلق السيف، ثم إن العلماء اختلفوا في السبي، هل يبطل حكم الزوجية الأولى مطلقًا ولو سبي الزوج معها، وهو ظاهر الآية أو لا يبطله إلا إذا سبيت وحدها دونه‏؟‏ فإن سبي معها فحكم الزوجية باق، وهو قول أبي حنيفة وبعض أصحاب أحمد والعلم عند اللَّه تعالى‏.‏

‏{‏فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ‏}‏، يعني‏:‏ كما أنكم تستمتعون بالمنكوحات فاعطوهن مهورهن في مقابلة ذلك، وهذا المعنى تدل له آيات من كتاب اللَّه كقوله تعالى‏:‏

‏{‏وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا‏}‏، فإفضاء بعضهم إلى بعض المصرح بأنه سبب لاستحقاق الصداق كاملاً، هو بعينه الاستمتاع المذكور هنا في قوله‏:‏ ‏{‏فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا‏}‏‏.‏ فالآية في عقد النكاح، لا في نكاح المتعة كما قال به من لا يعلم معناها، فإن قيل التعبير بلفظ الأجور يدل على أن المقصود الأجرة في نكاح المتعة؛ لأن الصداق لا يسمى أجرًا، فالجواب أن القرءان جاء في تسمية الصداق أجرًا في موضع لا نزاع فيه؛ لأن الصداق لما كان في مقابلة الاستمتاع بالزوجة كما صرّح به تعالى في قوله‏:‏ ‏{‏وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا‏}‏، صار له شبه قوي بأثمان المنافع فسمي أجرًا، وذلك الموضع هو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ‏}‏، أي‏:‏ مهورهن بلا نزاع، ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏‏.‏ أي‏:‏ مهورهن فاتّضح أن الآية في النكاح لا في نكاح المتعة، فإن قيل‏:‏ كان ابن عباس وأُبي بن كعب، وسعيد بن جبير، والسدي يقرأون‏:‏ ‏{‏فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ‏}‏ إلى أجل مسمى، وهذا يدلّ على أن الآية في نكاح المتعة، فالجواب من ثلاثة أوجه‏:‏

الأول‏:‏ أن قولهم إلى أجل مسمى لم يثبت قرءانًا؛ لإجماع الصحابة على عدم كتبه في المصاحف العثمانية، وأكثر الأصوليين على أن ما قرأه الصحابي على أنه قرءان، ولم يثبت كونه قرءانًا لا يستدل به على شىء؛ لأنه باطل من أصله؛ لأنه لما لم ينقله إلا على أنه قرءان فبطل كونه قرءانًا ظهر بطلانه من أصله‏.‏

الثاني‏:‏ أنا لو مشينا على أنه يحتج به، كالاحتجاج بخبر الآحاد كما قال به قوم، أو على أنه تفسير منهم للآية بذلك، فهو معارض بأقوى منه؛ لأن جمهور العلماء على خلافه؛ ولأن الأحاديث الصحيحة الصريحة قاطعة بكثرة بتحريم نكاح المتعة، وصرح صلى الله عليه وسلم بأن ذلك التحريم دائم إلى يوم القيامة، كما ثبت في ‏"‏ صحيح‏"‏ مسلم من حديث سبرة بن معبد الجهني رضي اللَّه عنه أنه غزا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة‏.‏

فقال‏:‏ ‏"‏يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع في النساء، وإن اللَّه قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهنّ شىء فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا‏"‏‏.‏

وفي رواية لمسلم في حجة الوداع‏:‏ ولا تعارض في ذلك؛ لإمكان أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك يوم فتح مكة، وفي حجة الوداع أيضًا والجمع واجب إذا أمكن، كما تقرر في علم الأصول وعلوم الحديث‏.‏

الثالث‏:‏ أّنا لو سلمنا تسليمًا جدليًا أن الآية تدلّ على إباحة نكاح المتعة فإن إباحتها منسوخة كما صح نسخ ذلك في الأحاديث المتفق عليها عنه صلى الله عليه وسلم، وقد نسخ ذلك مرتين الأولى يوم خيبر كما ثبت في الصحيح، والآخرة يوم فتح مكة، كما ثبت في الصحيح أيضًا‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ نسخت مرة واحدة يوم الفتح، والذي وقع في خيبر تحريم لحوم الحمر الأهلية فقط، فظن بعض الرواة أن يوم خيبر ظرف أيضًا لتحريم المتعة‏.‏

واختار هذا القول ابن القيم، ولكن بعض الروايات الصحيحة، صريحة في تحريم المتعة يوم خيبر أيضًا، فالظاهر أنها حرمت مرتين كما جزم به غير واحد، وصحت الرواية به‏.‏ واللَّه تعالى أعلم‏.‏ الرابع‏:‏ أنه تعالى صرّح بأنه يجب حفظ الفرج عن غير الزوجة والسرية في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ عَلَىا أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُهُمْ‏}‏، في الموضعين، ثم صرّح بأن المبتغى وراء ذلك من العادين بقوله‏:‏ ‏{‏فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ‏}‏‏.‏

ومعلوم أن المستمتع بها ليست مملوكة ولا زوجة، فمبتغيها إذن من العادين بنص القرءان، أما كونها غير مملوكة فواضح، وأمّاكونها غير زوجة فلانتفاء لوازم الزوجية عنها كالميراث، والعدّة، والطلاق، والنفقة، ولو كانت زوجة لورثت واعتدت ووقع عليها الطلاق ووجبت لها النفقة، كما هو ظاهر، فهذه الآية التي هي‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ‏}‏، صريحة في منع الاستمتاع بالنساء الذي نسخ‏.‏ وسياق الآية التي نحن بصددها يدلّ دلالة واضحة على أن الآية في عقد النكاح كما بينّا لا في نكاح المتعة، لأنه تعالى ذكر المحرمات التي لا يجوز نكاحها، بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ‏}‏ الخ‏.‏‏.‏‏.‏

ثم بيّن أن غير تلك المحرمات حلال بالنكاح بقوله‏:‏ ‏{‏وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ‏}‏، ثمّ بيّن أن من نكحتم منهن واستمتعتم بها يلزمكم أن تعطوها مهرها، مرتبًا لذلك بالفاء على النكاح بقوله‏:‏ ‏{‏فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ‏}‏، كما بينّاه واضحًا والعلم عند اللَّه تعالى‏.‏

‏{‏وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاء قِرِينًا وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِم عَلِيمًا‏}‏

، وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَـاتِ الْمُؤْمِنَـاتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُم مِّن فَتَيَـاتِكُمُ ظاهر هذه الآية الكريمة أن الأمة لا يجوز نكاحها، ولو عند الضرورة إلا إذا كانت مؤمنة بدليل قوله‏:‏ ‏{‏مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ‏}‏، فمفهوم مخالفته أن غير المؤمنات من الإماء لا يجوز نكاحهن على كل حال، وهذا المفهوم يفهم من مفهوم آية أخرى وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ‏}‏، فإن المراد بالمحصنات فيها الحرائر على أحد الأقوال، ويفهم منه أن الإماء الكوافر لا يحل نكاحهن ولو كنّ كتابيات، وخالف الإمام أبو حنيفة رحمه اللَّه فأجاز نكاح الأمة الكافرة، وأجاز نكاح الإماء لمن عنده طول ينكح به الحرائر؛ لأنه لا يعتبر مفهوم المخالفة كما عرف في أصوله رحمه اللَّه‏.‏

أما وطء الأمة الكافرة بملك اليمين، فإنها إن كانت كتابية فجمهور العلماء على إباحة وطئها بالملك، لعموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ‏}‏، ولجواز نكاح حرائرهم فيحل التسري بالإماء منهم‏.‏ وأما إن كانت الأمة المملوكة له مجوسية أو عابدة وثن ممن لا يحل نكاح حرائرهم؛ فجمهور العلماء على منع وطئها بملك اليمين‏.‏

قال ابن عبد البر‏:‏ وعليه جماعة فقهاء الأمصار وجمهور العلماء، وما خالفه فهو شذوذ لا يعد خلافًا، ولم يبلغنا إباحة ذلك إلا عن طاوس‏.‏

قال مقيده عفا اللَّه عنه‏:‏ الذي يظهر من جهة الدليل واللَّه تعالى أعلم، جواز وطء الأمة بملك اليمين وإن كانت عابدة وثن أو مجوسية؛ لأن أكثر السبايا في عصره صلى الله عليه وسلم من كفار العرب وهم عبدة أوثان، ولم ينقل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه حرم وطأهن بالملك لكفرهن ولو كان حرامًا لبيّنه، بل قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة‏"‏، ولم يقل حتى يسلمن ولو كان ذلك شرطًا لقاله وقد أخذ الصحابة سبايا فارس وهن مجوس، ولم ينقل أنهم اجتنبوهن حتى أسلمن‏.‏

قال ابن القيّم في ‏"‏زاد المعاد‏"‏، ما نصه‏:‏ ودلّ هذا القضاء النبوي على جواز وطء الإماء الوثنيات بملك اليمين، فإن سبايا أوطاس لم يكنّ كتابيات، ولم يشترط رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في وطئهن إسلامهن، ولم يجعل المانع منه إلا الاستبراء فقط، وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع مع أنهم حديثو عهد بالإسلام ويخفى عليهم حكم هذه المسألة وحصول الإسلام من جميع السبايا، وكنَّ عدة آلاف بحيث لم يتخلف منهنّ عن الإسلام جارية واحدة مما يعلم أنه في غاية البعد، فإنهنّ لم يكرهن على الإسلام، ولم يكن لهنّ من البصيرة والرغبة والمحبة في الإسلام ما يقتضي مبادرتهن إليه جميعًا، فمقتضى السنة وعمل الصحابة في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وبعده جواز وطء المملوكات على أي دين كن، وهذا مذهب طاوس وغيره، وقواه صاحب ‏"‏المغني‏"‏ فيه ورجح أدلته، وباللَّه التوفيق‏.‏اهـ كلام ابن القيم بلفظه وهو واضح جدًا‏.‏

‏{‏فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ‏}‏، لم يبيّن هنا هذا العذاب الذي على المحصنات وهن الحرائر الذي نصفه على الإماء، ولكنه بيّن في موضع آخر أنه جلد مائة بقوله‏:‏ ‏{‏الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏، فيعلم منه أن على الأمة الزانية خمسين جلدة ويلحق بها العبد الزاني فيجلد خمسين، فعموم الزانية مخصوص بنص قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ‏}‏، وعموم الزاني مخصوص بالقياس على المنصوص؛ لأنه لا فارق البتة بين الحرة والأمة إلا الرق، فعلم أنه سبب تشطير الجلد فأجرى في العبد لاتصافه بالرق الذي هو مناط تشطير الجلد، وهذه الآية عند الأصوليين من أمثلة تخصيص عموم النص بالقياس، بناء على أن نوع تنقيح المناط المعروف بإلغاء الفارق يسمى قياسًا، والخلاف في كونه قياسًا معروف في الأصول‏.‏ أما الرجم فمعلوم أنه لا يتشطر، فلم يدخل في المراد بالآية‏.‏

تنبيـه

قد علمت مما تقدم أن التحقيق في معنى أحصن أن المراد به تزوجن، وذلك هو معناه على كلتا القراءتين قراءته بالبناة للفاعل والمفعول، خلافًا لما اختاره ابن جرير من أن معنى قراءة أحصن بفتح الهمزة والصاد مبنيًا للفاعل أسلمن، وأن معنى أُحْصِنَّ بضم الهمزة وكسر الصاد مبنيًا للمفعول زوجن، وعليه فيفهم من مفهوم الشرط في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا أُحْصِنَّ‏}‏‏.‏ أن الأمة التي لم تتزوج لا حدّ عليها إذا زنت؛ لأنه تعالى علق حدّها في الآية بالإحصان، وتمسك بمفهوم هذه الآية ابن عباس، وطاوس، وعطاء، وابن جريج، وسعيد بن جبير، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وداود بن علي في رواية فقالوا‏:‏ لا حدّ على مملوكة حتى تتزوج، والجواب عن هذا واللَّه أعلم أن مفهوم هذه الآية فيه إجمال وقد بيّنته السنة الصحيحة، وإيضاحه أن تعليق جلد الخمسين المذكور في الآية على إحصان الأمة، يفهم منه أن الأمة التي لم تحصن ليست كذلك فقط، فيحتمل أنها لا تجلد ويحتمل أنها تجلد أكثر من ذلك أو أقل أو ترجم إلى غير ذلك من المحتملات، ولكن السنة الصحيحة دلت على أن غير المحصنة من الإماء كذلك، لا فرق بينها وبين المحصنة، والحكمة في التعبير بخصوص المحصنة دفع توهم أنها ترجم كالحرة، فقد أخرج الشيخان في ‏"‏صحيحيهما‏"‏ عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي اللَّه عنهما قالا‏:‏ سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الأمة إذا زنت ولم تحصن، قال‏:‏ ‏"‏إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير‏"‏‏.‏

قال ابن شهاب‏:‏ لا أدري أبعد الثالثة، أو الرابعة، وحمل الجلد في الحديث على التأديب غير ظاهر، لا سيما وفي بعض الروايات التصريح بالحد، فمفهوم هذه الآية هو بعينه الذي سئل عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأجاب فيه بالأمر بالجلد في هذا الحديث المتفق عليه، والظاهر أن السائل ما سأله إلا لأنه أشكل عليه مفهوم هذه الآية فالحديث نص في محل النزاع، ولو كان جلد غير المحصنة أكثر أو أقل من جلد المحصنة لبيّنه صلى الله عليه وسلم‏.‏

وبهذا تعلم أن الأقوال المخالفة لهذا لا يعّول عليها، كقول ابن عباس ومن وافقه المتقدم آنفًا، وكالقول بأن غير المحصنة تجلد مائة، وهو المشهور عن داود بن علي الظاهري، ولا يخفى بعده وكالقول بأن الأمة المحصنة ترجم وغير المحصنة تجلد خمسين، وهو قول أبي ثور، ولا يخفى شدة بعده والعلم عند اللَّه تعالى‏.‏

‏{‏يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏، ذكر في هذه الآية الكريمة أن النشوز قد يحصل من النساء،

ولم يبيّن هل يحصل من الرجال نشوز أو لا ‏؟‏ ولكنه بيّن في موضع آخر أن النشوز أيضًا قد يحصل من الرجال، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا‏}‏، وأصل النشوز في اللغة الارتفاع، فالمرأة الناشز كأنها ترتفع عن المكان الذي يضاجعها فيه زوجها، وهو في اصطلاح الفقهاء الخروج عن طاعة الزوج، وكأن نشوز الرجل ارتفاعه أيضًا عن المحل الذي فيه الزوجة وتركه مضاجعتها، والعلم عند اللَّه تعالى‏.‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا‏}‏

، وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَـاعِفْهَا لم يبيّن في هذه الآية الكريمة أقل ما تضاعف به الحسنة، ولا أكثره ولكنه بيّن في موضع آخر أن أقل ما تضاعف به عشر أمثالها، وهو قوله‏:‏ ‏{‏مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ‏}‏‏.‏

وبيّن في موضع آخر أن المضاعفة ربما بلغت سبعمائة ضعف إلى ما شاء اللَّه، وهو قوله‏:‏ ‏{‏مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ‏}‏، كما تقدم‏.‏

‏{‏يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا‏}‏

، يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىا بِهِمُ الاٌّرْضُ على القراءات الثلاث معناه أنهم يتمنون أن يستووا بالأرض، فيكونوا ترابًا مثلها على أظهر الأقوال، ويوضح هذا المعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا‏}‏‏.‏

‏{‏وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا‏}‏، بيّن في موضع آخر أن عدم الكتم المذكور هنا، إنما هو باعتبار إخبار أيديهم وأرجلهم بكل ما عملوا عند الختم على أفواههم إذا أنكروا شركهم ومعاصيهم وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ‏}‏، فلا يتنافى قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا‏}‏، مع قوله عنهم‏:‏ ‏{‏وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏، وقوله عنهم أيضًا‏:‏ ‏{‏مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ‏}‏، وقوله عنهم‏:‏ ‏{‏بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئًا‏}‏، للبيان الذي ذكرنا والعلم عند اللَّه تعالى‏.‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا‏}‏

، يَـاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَواةَ وَأَنتُمْ سُكَـارَىا حَتَّىا تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ بيّن تعالى في هذه الآية زوال السكر بأنه هو أن يثوب للسكران عقله، حتى يعلم معنى الكلام الذي يصدر منه بقوله‏:‏ ‏{‏حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الهدى

الهدى


عدد المساهمات : 326
التميز : 1
تاريخ التسجيل : 14/10/2009

تفسير اضواء البيان فى ايضاح القران بالقران - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: تفسير اضواء البيان فى ايضاح القران بالقران   تفسير اضواء البيان فى ايضاح القران بالقران - صفحة 2 Emptyالإثنين يناير 11, 2010 5:07 am


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَـابِ يَشْتَرُونَ الضَّلـالَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ ذكر في هذه الآية الكريمة أن الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب مع اشترائهم الضلالة يريدون إضلال المسلمين أيضًا‏.‏

وذكر في موضع آخر أنهم كثير، وأنهم يتمنون ردة المسلمين، وأن السبب الحامل لهم على ذلك إنما هو الحسد وأنهم ما صدر منهم ذلك إلا بعد معرفتهم الحق وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

وذكر في موضع آخر أن هذا الإضلال الذي يتمنونه للمسلمين لا يقع من المسلمين، وإنما يقع منهم أعني المتمنين الضلال للمسلمين وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً‏}‏

، أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَـابَ السَّبْتِ لم يبيّن هنا كيفية لعنه لأصحاب السبت، ولكنه بيّن في غير هذا الموضع أن لعنه لهم هو مسخهم قردة ومن مسخه اللَّه قردًا غضبًا عليه ملعون بلا شك، وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ‏}‏، والاستدلال على مغايرة اللعن للمسخ بعطفه عليه في قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ‏}‏، لا يفيد أكثر من مغايرته للمسخ في تلك الآية، كما قاله الألوسي في ‏"‏تفسيره‏"‏ وهو ظاهر واللعنة في اللغة‏:‏ الطرد والإبعاد، والرجل الذي طرده قومه وأبعدوه لجناياته تقول له العرب رجل لعين، ومنه قول الشاعر‏:‏ ذعرت به القطا ونفيت عنه مقام الذئب كالرجل اللعين


وفي اصطلاح الشرع‏:‏ اللعنة‏:‏ الطرد والإبعاد عن رحمة اللَّه، ومعلوم أن المسخ من أكبر أنواع الطرد والإبعاد‏.‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا‏}‏

، إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىا إِثْماً عَظِيماً ذكر في هذه الآية الكريمة أنه تعالى لا يغفر الإشراك به وأنه يغفر غير ذلك لمن يشاء وأن من أشرك به فقد افترى إثمًا عظيمًا‏.‏

وذكر في مواضع أُخر‏:‏ أن محل كونه لا يغفر الإشراك به إذا لم يتب المشرك من ذلك، فإن تاب غفر له كقوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا‏}‏، فإن الإستثناء راجع لقوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا‏}‏، وما عطف عليه؛ لأن معنى الكل جُمع في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ‏}‏‏.‏ وذكر في موضع آخر‏:‏ أن من أشرك باللَّه قد ضلّ ضلالاً بعيدًا عن الحق، وهو قوله في هذه السورة الكريمة أيضًا‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا‏}‏، وصرّح بأن من أشرك باللَّه فالجنة عليه حرام ومأواه النار بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ‏}‏‏.‏

وذكر في موضع آخر أن المشرك لا يرجى له خلاص، وهو قوله‏:‏ ‏{‏حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ‏}‏، وصرّح في موضع آخر‏:‏ بأن الإشراك ظلم عظيم بقوله عن لقمان مقررًا له‏:‏ ‏{‏إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ‏}‏‏.‏

وذكر في موضع آخر أن الأمن التام والاهتداء، إنما هما لمن لم يلبس إيمانه بشرك، وهو قوله‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ‏}‏، وقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم أن معنى ‏{‏بِظُلْمٍ‏}‏ بشرك‏.‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُّبِينًا أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا‏}‏

، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّى مَن يَشَآءُ أنكر تعالى عليهم في هذه الآية تزكيتهم أنفسهم بقوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى‏}‏، وبقوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُّبِينًا‏}‏، وصرّح بالنهي العام عن تزكية النفس وأحرى نفس الكافر التي هي أخس شىء وأنجسه بقوله‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى‏}‏، ولم يبيّن هنا كيفية تزكيتهم أنفسهم‏.‏

ولكنّه بيّن ذلك في مواضع أُخر، كقوله عنهم‏:‏ ‏{‏نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ‏}‏، إلى غير ذلك من الآيات‏.‏

‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا‏}‏

، وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً وصف في هذه الآية الكريمة ظل الجنة بأنه ظليل، ووصفه في آية أخرى بأنه دائم، وهي قوله‏:‏ ‏{‏أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا‏}‏، ووصفه في آية أخرى بأنه ممدود، وهي قوله‏:‏ ‏{‏وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ‏}‏، وبيّن في موضع آخر أنها ظلال متعددة، وهو قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ‏}‏‏.‏

وذكر في موضع آخر أنهم في تلك الظلال متكئون مع أزواجهم على الأرائك وهو قوله‏:‏ ‏{‏هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ‏}‏، والأرائك‏:‏ جمع أريكة وهي السرير في الحجلة، والحجلة بيت يزين للعروس بجميع أنواع الزينة، وبين أن ظل أهل النار ليس كذلك بقوله‏:‏ ‏{‏انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ لاَّ بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ‏}‏‏.‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا‏}‏

، فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ أمر اللَّه في هذه الآية الكريمة، بأن كل شىء تنازع فيه الناس من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى كتاب اللَّه وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه تعالى قال‏:‏ ‏{‏مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا‏}‏، واوضح هذا المأمور به هنا بقوله‏:‏ ‏{‏اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْء فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ‏}‏، ويفهم من هذه الآية الكريمة أنه لا يجوز التحاكم إلى غير كتاب اللَّه وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم، وقد أوضح تعالى هذا المفهوم موبخًا للمتحاكمين إلى غير كتاب اللَّه وسنة نبيّه صلى الله عليه وسلم مبيّنًا أن الشيطان أضلهم ضلالاً بعيدًا عن الحق بقوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّـاغُوتِ‏}‏، وأشار إلى أنه لا يؤمنْ أحد حتى يكفر بالطاغوت بقوله‏:‏ ‏{‏لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

ومفهوم الشرط أن من لم يكفر بالطاغوت لم يستمسك بالعروة الوثقى وهو كذلك، ومن لم يستمسك بالعروة الوثقى فهو بمعزل عن الإيمان؛ لأن الإيمان باللَّه هو العروة الوثقى، والإيمان بالطاغوت يستحيل اجتماعه مع الإيمان باللَّه؛ لأن الكفر بالطاغوت شرط في الإيمان باللَّه أو ركن منه، كما هو صريح قوله‏:‏ ‏{‏فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ‏}‏‏.‏

تنبيــه

استدل منكروا القياس بهذه الآية الكريمة، أعني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ‏}‏ الآية، على بطلان القياس قالوا‏:‏ لأنه تعالى أوجب الرد إلى خصوص الكتاب والسنة دون القياس، وأجاب الجمهور بأنه لا دليل لهم في الآية؛ لأن إلحاق غير المنصوص بالمنصوص لوجود معنى النص فيه لا يخرج عن الرد إلى الكتاب والسنة، بل قال بعضهم الآية متضمنة لجميع الأدلة الشرعية، فالمراد بإطاعة اللَّه العمل بالكتاب وبإطاعة الرسول العمل بالسنّة، وبالرد إليهما القياس؛ لأن رد المختلف فيه غير المعلوم من النص إلى المنصوص عليه، إنما يكون بالتمثيل والبناء عليه، وليس القياس شيئًا وراء ذلك‏.‏

وقد علم من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِن تَنَازَعْتُمْ‏}‏ أنه عند عدم النزاع يعمل بالمتفق عليه، وهو الإجماع قاله الألوسي في ‏"‏تفسيره‏"‏‏.‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا‏}‏

، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَـافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً ذكر في هذه الآية الكريمة أن المنافقين إذا دعوا إلى ما أنزل اللَّه، وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم يصدون عن ذلك صدودًا أي‏:‏ يعرضون إعراضًا‏.‏

وذكر في موضع آخر أنهم إذا دعوا إليه صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم لووا رءوسهم، وصدوا واستكبروا، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذاً لآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا‏}‏

، فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىا يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِىا أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً أقسم تعالى في هذه الآية الكريمة بنفسه الكريمة المقدسة، أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم رسوله صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، ثم ينقاد لما حكم به ظاهرًا وباطنًا ويسلمه تسليمًا كليًا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة، وبيّن في آية أخرى أن قول المؤمنين محصور في هذا التسليم الكلي، والانقياد التام ظاهرًا وباطنًا لما حكم به صلى الله عليه وسلم، وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا‏}‏

، فَإِنْ أَصَـابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَىَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً ذكر في هذه الآية الكريمة أن المنافقين إذا سمعوا بأن المسلمين أصابتهم مصيبة أي‏:‏ من قتل الأعداء لهم، أو جراح أصابتهم، أو نحو ذلك يقولون إن عدم حضورهم معهم من نعم اللَّه عليهم‏.‏

وذكر في مواضع أُخر أنهم يفرحون بالسوء الذي أصاب المسلمين، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا‏}‏

، وَلَئِنْ أَصَـابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يالَيتَنِى كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً ذكر في هذه الآية الكريمة، أن المنافقين إذا سمعوا أن المسلمين أصابهم فضل من اللَّه، أي‏:‏ نصر وظفر وغنيمة، تمنوا أن يكونوا معهم ليفوزوا بسهامهم من الغنيمة‏.‏

وذكر في مواضع أخر أن ذلك الفضل الذي يصيب المؤمنين يسوءهم لشدة عداوتهم الباطنة لهم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ‏}‏‏.‏

‏{‏فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا‏}‏

، وَمَن يُقَـاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ ذكر في هذه الآية الكريمة، أنه سوف يؤتي المجاهد في سبيله أجرًا عظيمًا سواء أقتل في سبيل اللَّه، أم غلب عدوه، وظفر به‏.‏

وبيّن في موضع آخر أن كلتا الحالتين حسنى، وهو قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ‏}‏، والحسنى صيغة تفضيل؛ لأنها تأنيث الأحسن‏.‏

‏{‏َحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏، لم يصرح هنا بالذي يحرض عليه المؤمنين، ما هو، وصرّح في موضع آخر بأنه القتال، وهو قوله‏:‏ ‏{‏حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ‏}‏، وأشار إلى ذلك هنا بقوله في أول الآية‏:‏ ‏{‏فَقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏، وقوله في آخرها‏:‏ ‏{‏عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏‏.‏

‏{‏فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَآؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا‏}‏

، أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً أنكر تعالى في هذه الآية الكريمة على من أراد أن يهدي من أضله اللَّه وصرّح فيها بأن من أضله اللَّه لا يوجد سبيل إلى هداه، وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ‏}‏، ويؤخذ من هذه الآيات أن العبد ينبغي له كثرة التضرع والابتهال إلى اللَّه تعالى أن يهديه ولا يضله، فإن من هداه اللَّه لا يضل، ومن أضله لا هادي له، ولذا ذكر عن الراسخين في العلم أنهم يقولون‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا‏}‏‏.‏

‏{‏لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا‏}‏

، لاَّ يَسْتَوِى الْقَـاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ وَالْمُجَـاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَـاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَـاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىا وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَـاهِدِينَ عَلَى الْقَـاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً ذكر في هذه الآية الكريمة أنه فضل المجاهدين في سبيل اللَّه بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وأجرًا عظيمًا، ولم يتعرض لتفضيل بعض المجاهدين على بعض، ولكنه بيّن ذلك في موضع آخر وهو قوله‏:‏ ‏{‏لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏، وقوله في هذه الآية الكريمة ‏{‏غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ‏}‏، يفهم من مفهوم مخالفته أن من خلفه العذر إذا كانت نيته صالحة يحصل ثواب المجاهد‏.‏

وهذا المفهوم صرّح به النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث أنس الثابت في الصحيح أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن بالمدينة أقوامًا ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه‏"‏، قالوا وهم بالمدينة يا رسول اللَّه ‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم حبسهم العذر‏"‏، وفي هذا المعنى قال الشاعر‏:‏ يا ظاعنين إلى البيت العتيق لقد سرتم جسومًا، وسرنا نحن أرواحا

إنا أقمنا على عذر وعن قدر ومن أقام على عذر فقد راحا


تنبيــه

يؤخذ من قوله في هذه الآية الكريمة‏:‏ ‏{‏وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى‏}‏، أن الجهاد فرض كفاية لا فرض عين؛ لأن القاعدين لو كانوا تاركين فرضًا لما ناسب ذلك وعده لهم الصادق بالحسنى؛ وهي الجنة والثواب الجزيل‏.‏

‏{‏وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا‏}‏

‏.‏ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الاٌّرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلواةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوااْ قال بعض العلماء‏:‏ المراد بالقصر في قوله‏:‏ ‏{‏أَن تَقْصُرُواْ‏}‏ في هذه الآية قصر كيفيتها لا كميتها ومعنى قصر كيفيتها أن يجوز فيها من الأمور ما لا يجوز في صلاة الأمن، كأن يصلي بعضهم مع الإمام ركعة واحدة، ويقف الإمام حتى يأتي البعض الآخر فيصلي معهم الركعة الأخرى وكصلاتهم إيماء رجالاً وركبانًا وغير متوجهين إلى القبلة، فكل هذا من قصر كيفيتها ويدل على أن المراد هو هذا القصر من كيفيتها‏.‏

قوله تعالى بعده يليه مبينًا له‏:‏ ‏{‏وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا‏}‏، ويزيده إيضاحًا أنه قال هنا‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ‏}‏، وقال في آية البقرة‏:‏ ‏{‏فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ‏}‏؛ لأن معناه فإذا أمنتم فأتموا كيفيتها بركوعها وسجودها وجميع ما يلزم فيها مما يتعذر وقت الخوف‏.‏

وعلى هذا التفسير الذي دلّ له القرءان، فشرط الخوف في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا‏}‏، معتبر أي‏:‏ وإن لم تخافوا منهم أن يفتنوكم فلا تقصروا من كيفيتها، بل صلوها على أكمل الهيئات، كما صرح به في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا‏}‏، وصرّح باشتراط الخوف أيضًا لقصر كيفيتها بأن يصليها الماشي والراكب بقوله‏:‏ ‏{‏فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا‏}‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ‏}‏، يعني‏:‏ فإنه أمنتم فأقيموا صلاتكم كما أمرتكم بركوعها وسجودها، وقيامها وقعودها، على أكمل هيئة وأتمها، وخير ما يبيّن القرءان القرءان، ويدلّ على أن المراد بالقصر في هذه الآية القصر من كيفيتها كما ذكرنا، أن البخاري صدر باب صلاة الخوف بقوله‏:‏ باب صلاة الخوف وقوله اللَّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا‏}‏، وما ذكره ابن حجر وغيره من أن البخاري ساق الآيتين في الترجمة ليشير إلى خروج صلاة الخوف عن هيئة بقية الصلوات بالكتاب قولاً، وبالسنة فعلاً، لا ينافي ما أشرنا إليه من أنه ساق الآيتين في الترجمة لينبه على أن قصر الكيفية الوارد في أحاديث الباب هو المراد بقصر الصلاة في قوله‏:‏ ‏{‏فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا‏}‏، ويؤيّده أيضًا أن قصر عددها لا يشترط فيه الخوف، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقصر هو وأصحابه في السفر وهم في غاية الأمن، كما وقع في حجة الوداع وغيرها، وكما قال صلى الله عليه وسلم لأهل مكة‏:‏ ‏"‏أتموا فإنا قوم سفر‏"‏‏.‏

وممن قال بأن المراد بالقصر في هذه الآية قصر الكيفية لا الكمية‏:‏ مجاهد، والضحاك، والسدي، نقله عنهم ابن كثير وهو قول أبي بكر الرازي الحنفي‏.‏ ونقل ابن جرير نحوه عن ابن عمر ولما نقل ابن كثير هذا القول عمن ذكرنا قال‏:‏ واعتضدوا بما رواه الإمام مالك عن صالح بن كيسان عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت‏:‏ ‏"‏فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، في السفر والحضر، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر‏"‏‏.‏

وقد روى هذا الحديث البخاري عن عبد اللَّه بن يوسف التنيسي ومسلم عن يحيىا بن يحيىا وأبو داود عن القعنبي، والنسائي عن قتيبة أربعتهم عن مالك به قالوا‏:‏ ‏"‏ فإذا كان أصل الصلاة في السفر اثنتين فكيف يكون المراد بالقصر هنا قصر الكمية ‏؟‏ لأن ما هو الأصل لا يقال فيه‏:‏ ‏{‏فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ‏}‏‏.‏

وأصرح من ذلك دلالة على هذا، ما رواه الإمام أحمد، حدّثنا وكيع وسفيان وعبد الرحمان عن زبيد اليامي، عن عبد الرحمان بن أبي ليلى، عن عمر رضي اللَّه عنه قال‏:‏ ‏"‏صلاة السفر ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر، على لسان محمد صلى الله عليه وسلم‏"‏‏.‏

وهكذا رواه النسائي وابن ماجه وابن حبان في ‏"‏صحيحه‏"‏ من طرق عن زبيد اليامي به، وهذا إسناد على شرط مسلم، وقد حكم مسلم في مقدمة كتابه بسماع ابن أبي ليلى عن عمر، وقد جاء مصرّحًا به في هذا الحديث وغيره وهو الصواب أن شاء اللَّه تعالى، وإن كان يحيىا بن معين، وأبو حاتم، والنسائي قد قالوا إنه لم يسمع منه‏.‏

وعلى هذا أيضًا فقال‏:‏ فقد وقع في بعض طرق أبي يعلىا الموصليّ، من طريق الثوري عن زبيد عن عبد الرحمان بن أبي ليلى، عن الثقة عن عمر فذكره، وعند ابن ماجه من طريق يزيد بن زياد بن أبي الجعد عن زبيدعن عبد الرحمان عن كعب بن عجرة عن عمر، فاللَّه أعلم‏.‏

وقد روى مسلم في ‏"‏صحيحه‏"‏، وأبو داود والنسائي، وابن ماجه من حديث أبي عوانة الوضاح بن عبد اللَّه اليشكري زاد مسلم والنسائي وأيوب بن عائذ، كلاهما عن بكير بن الأخنس عن مجاهد عن عبد اللَّه بن عباس قال‏:‏ ‏"‏فرض اللَّه الصلاة على لسان نبيّكم محمّد صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعًا وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة فكما يصلّى في الحضر قبلها وبعدها فكذلك يصلّى في السفر‏"‏‏.‏

ورواه ابن ماجه من حديث أسامة بن زيد عن طاوس نفسه، فهذا ثابت عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما، ولا ينافي ما تقدم عن عائشة رضي اللَّه عنها؛ لأنها أخبرت ‏"‏أن أصل الصلاة ركعتان، ولكن زيد في صلاة الحضر فلما استقر ذلك صح أن يقال‏:‏ إن فرض صلاة الحضر أربع‏"‏، كما قاله ابن عباس، واللَّه أعلم‏.‏

ولكن اتّفق حديث ابن عباس وعائشة على أن صلاة السفر ركعتان وأنها تامة غير مقصورة كما هو مصرح به في حديث عمر رضي اللَّه عنه واعلم أن حديث عائشة المذكور تكلم فيه من ثمان جهات‏:‏

الأولى‏:‏ أنه معارض بالإجماع‏.‏ قال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي في كتابه المسمى ‏"‏بالقبس‏"‏‏.‏

قال علماؤنا هذا الحديث مردود بالإجماع‏.‏

الثانية‏:‏ أنها هي خالفته، والراوي من أعلم الناس بما روى فهي رضي اللَّه عنها كانت تتم في السفر، قالوا‏:‏ ومخالفتها لروايتها توهن الحديث‏.‏

الثالثة‏:‏ إجماع فقهاء الأمصار على أنه ليس بأصل يعتبر في صلاة المسافر خلف المقيم‏.‏

الرابعة‏:‏ أن غيرها من الصحابة خالفها كعمر وابن عباس وجبير بن مطعم فقالوا‏:‏ ‏"‏إن الصلاة فرضت في الحضر أربعًا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة‏"‏، وقد قدمنا رواية مسلم وغيره له عن ابن عباس‏.‏

الخامسة‏:‏ دعوى أنه مضطرب؛ لأنه رواه ابن عجلان عن صالح بن كيسان عن عروة عن عائشة قالت‏:‏ ‏"‏فرض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الصلاة ركعتين‏"‏، وقال فيه الأوزاعي عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت‏:‏ ‏"‏فرض اللَّه الصلاة على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ركعتين ركعتين‏"‏ الحديث‏.‏ قالوا‏:‏ فهذا اضطراب‏.‏

السادسة‏:‏ أنه ليس على ظاهره؛ لأن المغرب، والصبح لم يزد فيهما، ولم ينقص‏.‏

السابعة‏:‏ أنه من قول عائشة لا مرفوع‏.‏

الثامنة‏:‏ قول إمام الحرمين‏:‏ لو صح لنقل متواترًا‏.‏

قال مقيده عفا اللَّه عنه‏:‏ وهذه الاعتراضات الموردة على حديث عائشة المذكور كلها ساقطة، أما معارضته بالإجماع فلا يخفى سقوطها؛ لأنه لا يصح فيه إجماع وذكر ابن العربي نفسه الخلاف فيه‏.‏


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الهدى

الهدى


عدد المساهمات : 326
التميز : 1
تاريخ التسجيل : 14/10/2009

تفسير اضواء البيان فى ايضاح القران بالقران - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: تفسير اضواء البيان فى ايضاح القران بالقران   تفسير اضواء البيان فى ايضاح القران بالقران - صفحة 2 Emptyالإثنين يناير 11, 2010 5:08 am


وقال القرطبي بعد ذكر دعوى ابن العربي الإجماع المذكور

قلت‏:‏ وهذا لا يصح، وقد ذكر هو وغيره الخلاف والنزاع فلم يصح ما ادعوه من الإجماع‏.‏

وأما معارضته بمخالفة عائشة له فهي أيضًا ظاهرة السقوط؛ لأن العبرة بروايتها لا برأيها كما هو التحقيق عند الجمهور، وقد بينّاه في سورة ‏"‏البقرة‏"‏ في الكلام على حديث طاوس المتقدم في الطلاق‏.‏

وأما معارضته بإجماع فقهاء الأمصار على أنه ليس بأصل يعتبر في صلاة المسافر خلف المقيم، فجوابه أن فقهاء الأمصار لم يجمعوا على ذلك، فقد ذهب جماعة من العلماء إلى أن المسافر لا يصح اقتداؤه بالمقيم لمخالفتهما في العدد، والنية، واحتجوا بحديث‏:‏ ‏"‏لا تختلفوا على إمامكم‏"‏ وممن ذهب إلى ذلك الشعبي وطاوس وداود الظاهري وغيرهم‏.‏

وأما معارضته بمخالفة بعض الصحابة لها كابن عباس، فجوابه ما قدمناه آنفًا عن ابن كثير من أن صلاة الحضر لما زيد فيها واستقر ذلك صح أن يقال‏:‏ إن فرض صلاة الحضر أربع كما قال ابن عباس‏.‏

وأما تضعيفه بالاضطراب فهو ظاهر السقوط؛ لأنه ليس فيه اضطراب أصلاً، ومعنى فرض اللَّه وفرض رسول اللَّه واحد؛ لأن اللَّه هو الشارع والرسول هو المبيّن، فإذا قيل فرض رسول اللَّه كذا فالمراد أنه مبلغ ذلك عن اللَّه فلا ينافي أن اللَّه هو الذي فرض ذلك كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا‏}‏، ونظيره حديث‏:‏ ‏"‏إن إبراهيم حرّم مكة ‏"‏ مع حديث‏:‏ ‏"‏ إن مكة حرّمها اللَّه ‏"‏ الحديث‏.‏

وأما رده بأن المغرب والصبح لم يزد فيهما فهو ظاهر السقوط أيضًا؛ لأن المراد بالحديث الصلوات التي تقصر خاصة كما هو ظاهر، مع أن بعض الروايات عن عائشة عند ابن خزيمة، وابن حبان، والبيهقي‏.‏ قالت‏:‏ ‏"‏فرضت صلاة السفر والحضر ركعتين ركعتين، فلما قدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة واطمأن زِيدَ في صلاة الحضر ركعتان ركعتان، وتركت صلاة الفجر لطول القراءة وصلاة المغرب؛ لأنها وتر النهار‏"‏ وعند أحمد من طريق ابن كيسان في حديث عائشة المذكور ‏"‏إلا المغرب فإنها كانت ثلاثًا‏"‏‏.‏

وهذه الروايات تبيّن أن المراد خصوص الصلوات التي تقصر، وأما رده بأنه غير مرفوع فهو ظاهر السقوط؛ لأنه مما لا مجال فيه للرأي فله حكم المرفوع،

ولو سلمنا أن عائشة لم تحضر فرض الصلاة فإنها يمكن أن تكون سمعت ذلك من النبيّ صلى الله عليه وسلم في زمنها معه، ولو فرضنا أنها لم تسمعه منه فهو مرسل صحابي ومراسيل الصحابة لها حكم الوصل‏.‏

وأما قول إمام الحرمين إنه لو ثبت لنقل متواترًا فهو ظاهر السقوط؛ لأن مثل هذا لا يرد بعدم التواتر، فإذا عرفت مما تقدم أن صلاة السفر فرضت ركعتين كما صح به الحديث عن عائشة وابن عباس وعمر ـ رضي اللَّه عنهم فاعلم أن ابن كثير بعد أن ساق الحديث عن عمر، وابن عباس، وعائشة قال ما نصه‏:‏

وإذا كان كذلك فيكون المراد بقوله‏:‏ ‏{‏فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ‏}‏، أن تقصروا من الصلاة قصر الكيفية كما في صلاة الخوف؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏ الآية‏.‏ ولهذا قال بعدها‏:‏ ‏{‏وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ‏}‏‏.‏ فبيّن المقصود من القصر ها هنا، وذكر صفته وكيفيته‏.‏اهـ محل الغرض منه بلفظه وهو واضح جدًا فيما ذكرنا وهو اختيار ابن جرير‏.‏

وعلى هذا القول، فالآية في صلاة الخوف وقصر الصلاة في السفر عليه مأخوذ من السنة لا من القرءان، وفي معنى الآية الكريمة أقوال أُخر‏:‏

أحدها‏:‏ أن معنى ‏{‏وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ‏}‏، الاقتصار على ركعة واحدة في صلاة الخوف كما قدمنا آنفًا من حديث ابن عباس عند مسلم، والنسائي، وأبي داود، وابن ماجه، وقدمنا أنه رواه ابن ماجه عن طاوس‏.‏

وقد روى نحوه أبو داود، والنسائي من حديث حذيفة قال‏:‏ ‏"‏فصلّى بهؤلاء ركعة، وهؤلاء ركعة ولم يقضوا‏"‏ ورواه النسائي أيضًا من حديث زيد بن ثابت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

وممن قال بالاقتصار في الخوف على ركعة واحدة، الثوري وإسحاق ومن تبعهما‏.‏ وروي عن أحمد بن حنبل وعطاء، وجابر، والحسن، ومجاهد، والحكم، وقتادة، وحماد، والضحاك‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ يصلّى الصبح في الخوف ركعة، وإليه ذهب ابن حزم، ويحكى عن محمد بن نصر المروزي وبالاقتصار على ركعة واحدة في الخوف‏.‏

قال أبو هريرة‏:‏ وأبو موسى الأشعري وغير واحد من التابعين ومنهم من قيده بشدة الخوف‏.‏

وعلى هذا القول، فالقصر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ‏}‏، قصر كمية‏.‏

وقال جماعة‏:‏ إن المراد بالقصر في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ‏}‏، هو قصر الصلاة في السفر‏.‏ قالوا‏:‏ ولا مفهوم مخالفة للشرط الذي هو قوله‏:‏ ‏{‏إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏؛ لأنه خرج مخرج الغالب حال نزول هذه الآية، فإن في مبدأ الإسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مخوفة‏.‏

وقد تقرر في الأصول، أن من الموانع لاعتبار مفهوم المخالفة خروج المنطوق مخرج الغالب، ولذا لم يعتبر الجمهور مفهوم المخالفة في قوله‏:‏ ‏{‏وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم‏}‏؛ لجريانه على الغالب‏.‏

قال في ‏"‏مراقي السعود‏"‏‏:‏ في ذكر موانع اعتبار مفهوم المخالفة‏:‏

أو جهل الحكم أو النطق انجلب للسؤل أو جرى على الذي غلب

واستدل من قال‏:‏ إن المراد بالآية قصر الرباعية في السفر بما أخرجه مسلم في ‏"‏ صحيحه ‏"‏، والإمام أحمد، وأصحاب السنن الأربعة، عن يعلى بن أمية قال‏:‏ قلت لعمر بن الخطاب‏:‏ ‏{‏فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏، فقد أمن الناس، قال‏:‏ عجبت ما عجبت منه، فسألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال‏:‏ ‏"‏صدقة تصدق اللَّه بها عليكم فاقبلوا صدقته‏"‏‏.‏ فهذا الحديث الثابت في ‏"‏صحيح مسلم‏"‏، وغيره يدل على أن يعلى بن أمية، وعمر بن الخطاب رضي اللَّه عنهما، كانا يعتقدان أن معنى الآية قصر الرباعية في السفر، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أقر عمر على فهمه لذلك، وهو دليل قوي، ولكنه معارض بما تقدم عن عمر من أنه قال‏:‏ ‏"‏صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم‏"‏ ويؤيده حديث عائشة، وحديث ابن عباس المتقدمان‏.‏

وظاهر الآيات المتقدمة الدالة على أن المراد بقوله أن تقصروا من الصلاة قصر الكيفية في صلاة الخوف، كما قدمنا، واللَّه تعالى أعلم، وهيئات صلاة الخوف كثيرة، فإن العدو تارة يكون إلى جهة القبلة، وتارة إلى غيرها، والصلاة قد تكون رباعية، وقد تكون ثلاثية، وقد تكون ثنائية، ثم تارة يصلون جماعة، وتارة يلتحم القتال، فلا يقدرون على الجماعة بل يصلون فرادى رجالاً، وركبانًا مستقبلي القبلة، وغير مستقبليها، وكل هيئات صلاة الخوف الواردة في الصحيح جائزة، وهيئاتها، وكيفياتها مفصلة في كتب الحديث والفروع، وسنذكر ما ذهب إليه الأئمة الأربعة منها إن شاء اللَّه‏.‏

أما مالك بن أنس، فالصورة التي أخذ بها منها هي أن الطائفة الأولى تصلّي مع الإمام ركعة في الثنائية، وركعتين في الرباعية والثلاثية، ثم تتم باقي الصلاة، وهو اثنتان في الرباعية، وواحدة في الثنائية والثلاثية، ثم يسلمون ويقفون وجاه العدو، وتأتي الطائفة الأخرى فيجدون الإمام قائمًا ينتظرهم، وهو مخير في قيامه بين القراءة، والدعاء، والسكوت إن كانت ثنائية، وبين الدعاء والسكوت إن كانت رباعية أو ثلاثية، وقيل‏:‏ ينتظرهم في الرباعية والثلاثية جالسًا فيصلي بهم باقي الصلاة، وهو ركعة في الثنائية، والثلاثية، وركعتان في الرباعية، ثم يسلم ويقضون ما فاتهم بعد سلامه، وهو ركعة في الثنائية، وركعتان في الرباعية والثلاثية‏.‏ فتحصل أن هذه الصورة، أنه يصلّي بالطائفة الأولى ركعة أو اثنتين، ثم يتمون لأنفسهم ويسلمون، ويقفون في وجه العدو، ثم تأتي الأخرى فيصلي بهم الباقي، ويسلم ويتمون لأنفسهم‏.‏

قال ابن يونس في هذه الصورة التي ذكرنا‏:‏ وحديث القاسم أشبه بالقرءان، وإلى الأخذ به رجع مالك‏.‏ اهـ‏.‏

قال مقيده عفا اللَّه عنه مراد ابن يونس، أن الحديث الذي رواه مالك في ‏"‏الموطأ‏"‏، عن يحيىا بن سعيد، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر، عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة، بالكيفية التي ذكرنا، هو الذي رجح إليه مالك، ورجحه أخيرًا على ما رواه، أعني مالكًا، عن يزيد بن رومان، عن صالح بن خوات، عمّن صلّى مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف‏.‏ الحديث، والفرق بين رواية القاسم بن محمد، وبين رواية يزيد بن رومان، أن رواية يزيد بن رومان فيها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى بالطائفة الأخرى الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسًا وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم، وقد عرفت أن رواية القاسم عند مالك في ‏"‏الموطأ‏"‏، أنه يصلّي بالطائفة الأخرى الركعة الباقية ثم يسلم فيتمون بعد سلامه لأنفسهم‏.‏

قال ابن عبد البرّ مشيرًا إلى الكيفية التي ذكرنا، وهي رواية القاسم بن محمد، عند مالك، وهذا الذي رجع إليه مالك بعد أن قال بحديث يزيد بن رومان، وإنما اختاره ورجع إليه للقياس على سائر الصلوات‏:‏ إن الإمام لا ينتظر المأموم، وإن المأموم إنما يقضي بعد سلام الإمام، وحديث القاسم هذا الذي أخرجه مالك في ‏(‏الموطأ‏)‏ موقوف على سهل، إلا أن له حكم الرفع؛ لأنه لا مجال للرأي فيه والتحقيق أنه مرسل صحابي؛ لأن سهلاً كان صغيرًا في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وجزم الطبري، وابن حبان، وابن السكن، وغيرهم بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم توفِيِّ وسهل المذكور ابن ثمان سنين، وزعم ابن حزم، أنه لم يرد عن أحد من السلف القول بالكيفية التي ذكرنا أنها رجع إليها مالك، ورواها في ‏"‏موطئه‏"‏ عن القاسم بن محمد، هذا هو حاصل مذهب مالك في كيفية صلاة الخوف‏.‏ قال أولاً‏:‏ بأن الإمام يصلي بالطائفة الأولى، ثم تتم لأنفسها، ثم تسلم، ثم يصلّي بقية الصلاة بالطائفة الأخرى وينتظرها حتى تتم، ثم يسلم بها ورجع إلى أن الإمام يسلم إذا صلى بقية صلاته مع الطائفة الأخرى، ولا ينتظرهم حتى يسلم بهم بل يتمون لأنفسهم بعد سلامه، كما بينّا‏.‏

والظاهر أن المبهم في رواية يزيد بن رومان في قول صالح بن خوات، عمّن صلّى مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، الحديث، أنه أبوه خوات بن جبير الصحابي، رضي اللَّه عنه، لا سهل بن أبي حثمة، كما قاله بعضهم‏.‏

قال الحافظ في ‏"‏الفتح‏"‏‏:‏ ولكن الراجح أنه أبوه خوات بن جبير؛ لأن أبا أويس، روى هذا الحديث، عن يزيد بن رومان شيخ مالك فيه فقال‏:‏ عن صالح بن خوات، عن أبيه، أخرجه ابن منده في ‏"‏معرفة الصحابة‏"‏ من طريقه، وكذلك أخرجه البيهقي، من طريق عبيد اللَّه بن عمر، عن القاسم بن محمد، عن صالح بن خوات، عن أبيه، وجزم النووي في ‏"‏تهذيبه‏"‏ بأنه أبوه خوات، وقال‏:‏ إنه محقق من رواية مسلم وغيره، قلت‏:‏ وسبقه إلى ذلك الغزالي، فقال إن صلاة ذات الرقاع في رواية خوات بن جبير‏.‏اهـ محل الغرض منه بلفظه‏.‏

ولم يفرّق المالكية بين كون العدو إلى جهة القبلة وبين كونه إلى غيرها، وأما إذا اشتدّ الخوف والتحم القتال، ولم يمكن لأحد منهم ترك القتال فإنهم يصلونها رجالاً وركبانًا إبماء مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، كما نصّ عليه تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا‏}‏‏.‏

وأما الشافعي رحمه اللَّه فإنه اختار من هيئات صلاة الخوف أربعًا‏:‏

إحداها‏:‏ هي التي ذكرنا آنفًا عند اشتداد الخوف والتحام القتال، حتى لا يمكن لأحد منهم ترك القتال، فإنهم يصلون كما ذكرنارجالاً وركبانًا إلخ الهيئة‏.‏

الثانية‏:‏ هي التي صلاها صلى الله عليه وسلم ببطن نخل، وهي أن يصلّي بالطائفة الأولى صلاتهم كاملة ثم يسلمون جميعهم‏:‏ الإمام والمأمومون ثم تأتي الطائفة الأخرى التي كانت في وجه العدو فيصلّي بهم مرة أخرى هي لهم فريضة وله نافلة، وصلاة بطن نخله هذه رواها جابر وأبو بكرة، فأما حديث جابر فرواه مسلم أنه صلّى مع النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، فصلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بإحدى الطائفتين ركعتين ثم صلّى بالطائفة الأخرى ركعتين، فصلّى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أربع ركعات وصلّى بكل طائفة ركعتين‏.‏

وذكره البخاري مختصرًا ورواه الشافعي والنسائي وابن خزيمة من طريق الحسن عن جابر وفيه أنه سلم من الركعتين أولاً ثم صلّى ركعتين بالطائفة الأخرى‏.‏

وأما حديث أبي بكرة فرواه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم والدارقطني، وفي رواية بعضهم أنها الظهر، وفي رواية بعضهم أنها المغرب، وإعلال ابن القطان لحديث أبي بكرة هذا بأنه أسلم بعد وقوع صلاة الخوف بمدة، مردود بأنا لو سلمنا أنه لم يحضر صلاة الخوف فحديثه مرسل صحابي ومراسيل الصحابة لهم حكم الوصل كما هو معلوم، واعلم أن حديث أبي بكرة ليس فيه أن ذلك كان ببطن نخل‏.‏

وقد استدل الشافعية بصلاة بطن نخل هذه على جواز صلاة المفترض خلف المتنفل‏.‏

واعلم أن هذه الكيفية التي ذكرنا أنها هي كيفية صلاة بطن نخل كما ذكره النووي وابن حجر وغيرهما، قد دلّ بعض الروايات عند مسلم والبخاري وغيرهما، على أنهاهي صلاة ذات الرقاع، وجزم ابن حجر بأنهما صلاتان، واللَّه تعالى أعلم‏.‏

وقد دلّ بعض الروايات على أن صلاة نخل هي صلاة عسفان، واللَّه تعالى أعلم‏.‏

الهيئة الثالثة‏:‏ من الهيئات التي اختارها الشافعي‏:‏ صلاة عسفان، وكيفيتها كما قال جابر رضي اللَّه عنه قال‏:‏ ‏"‏ شهدت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، فصفنا صفين، صف خلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والعدوّ بيننا وبين القبلة، فكبّر النبيّ صلى الله عليه وسلم وكبّرنا جميعًا ثم ركع وركعنا جميعًا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعًا، ثم انحذر بالسجود والصفّ الذي يليه، وقام الصف المؤخّر في نحر العدو، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السجود وقام الصفّ الذي يليه انحدر الصفّ المؤخر بالسجود وقاموا، ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المتقدم، ثم ركع النبيّ صلى الله عليه وسلم وركعنا جميعًا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعًا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخرًا في الركعة الأولى، وقام الصف المؤخر في نحور العدو فلما قضى النبيّ صلى الله عليه وسلم السجود والصف الذي يليه، انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا، ثم سلم النبيّ صلى الله عليه وسلم وسلمنا جميعًا ‏"‏، هذا لفظ مسلم في ‏"‏ صحيحه ‏"‏، وأخرج النسائي والبيهقي من رواية ابن عباس ورواه أبو داود النسائي وابن حبان والحاكم من رواية أبي عياش الزرقي واسمه زيد بن الصامت وهو صحابي‏.‏

وقول ابن حجر في ‏"‏ التقريب ‏"‏ في الكنى‏:‏ إنه تابعي، الظاهر أنه سهو منه رحمه اللَّه، وإنما قلنا‏:‏ إن هذه الكيفية من الكيفيات التي اختارها الشافعي مع أنها مخالفة للصورة التي صحت عنه في صلاة عسفان؛ لأنه أوصى على العمل بالحديث إذا صح، وأنه مذهبه، والصورة التي صحت عن الشافعي رحمه اللَّه في ‏"‏ مختصر المزني ‏"‏ ‏"‏ والأم ‏"‏ أنه قال‏:‏ صلّى بهم الإمام وركع وسجد بهم جميعًا إلا صفًا يليه إو بعض صف ينتظرون العدو، فإذا قاموا بعد السحدتين سجد الصف الذي حرسهم، فإذا ركع ركع بهم جميعًا وإذا سجد سجد معه الذين حرسوا أولاً إلا صفًا أو بعض صف يحرسه منهم، فإذا سجدوا سجدتين وجلسوا سجد الذين حرسوا ثم يتشهدون ثم سلّم بهم جميعًا معًا، وهذا نحو صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم بعسفان، قال‏:‏ ولو تأخر الصف الذي حرس إلى الصف الثاني وتقدم الثاني فحرس فلا بأس‏.‏ انتهى بواسطة نقل النووي‏.‏

والظاهر أن الشافعي رحمه اللَّه يرى أن الصورتين أعني‏:‏ التي ذكرنا في حديث جابر وابن عباس وأبي عياش الزرقي والتي نقلناها عن الشافعي كلتاهما جائزة واتباع ما ثبت في الصحيح أحق من غيره، وصلاة عسفان المذكورة صلاة العصر‏.‏

وقد جاء في بعض الروايات عند أبي داود وغيره أن مثل صلاة عسفان التي ذكرنا صلاّها أيضًا صلى الله عليه وسلم يوم بني سليم‏.‏

الرابعة‏:‏ من الهيئات التي اختارها الشافعي رحمه اللَّه هي‏:‏ صلاة ذات الرقاع، والكيفية التي اختارها الشافعي منها هي التي قدمنا رواية مالك لها عن يزيد بن رومان، وهي أن يصلّي بالطائفة الأولى ركعة ثم يفارقونه ويتمّون لأنفسهم ويسلّمون، ويذهبون إلى وجوه العدو وهو قائم في الثانية يطيل القراءة حتى يأتي الآخرون فيصلي بهم الركعة الباقية ويجلس ينتظرهم حتى يصلوا ركعتهم الباقية، ثم يسلّم بهم، وهذه الكيفية قد قدمنا أن مالكًا رواها عن يزيد بن رومان عن صالح بن خوات بن جبير عمّن صلّى مع النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف يوم ذات الرقاع، وأخرجها الشيخان من طريقه، فقد رواه البخاري عن قتيبة عن مالك ومسلم عن يحيى بن يحيى عن مالك نحو ما ذكرنا، وقد قدمنا أن مالكًا قال بهذه الكيفية أولاً ثم رجع عنها إلى أن الإمام يسلم ولا ينتظر إتمام الطائفة الثانية صلاتهم حتى يسلّم بهم‏.‏ وصلاة ذات الرقاع لها كيفية أخرى غير هذه التي اختيار الشافعي وهي ثابتة في ‏"‏ الصحيحين ‏"‏ من حديث ابن عمر قال‏:‏ صلّى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة، والطائفة الأخرى مواجهة العدو، ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم، مقبلين على العدو، وجاء أولئك ثم صلّى بهم النبيّ صلى الله عليه وسلم ركعة، ثم سلم النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة‏.‏

وهذا لفظ مسلم ولفظ البخاري بمعناه، ولم تختلف الطرق عن ابن عمر في هذا، وظاهره أنهم أتموا لأنفسهم في حالة واحدة ويحتمل أنهم أتموا على التعاقب، وهوالراجح من حيث المعنى؛ لأن إتمامهم في حالة واحدة يستلزم تضييع الحراسة المطلوبة وإفراد الإمام وحده، ويرجّحه ما رواه أبو داود من حديث ابن مسعود ولفظه‏:‏ ثم سلم فقام هؤلاء أي‏:‏ الطائفة الثانية فصلّوا لأنفسهم ركعة، ثم سلّموا ثم ذهبوا ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلّموا‏.‏ وظاهره أن الطائفة الثانية والت بين ركعتيها ثم أتمت الطائفة الأولى بعدها، واعلم أن ما ذكره الرافعي وغيره من كتب الفقه من أن في حديث ابن عمر هذا أن الطائفة الثانية تأخرت وجاءت الطائفة الأولى فأتموا ركعة ثم تأخروا وعادت الطائفة الثانية فأتموا مخالف للروايات الثابتة في ‏"‏ الصحيحين ‏"‏ وغيرهما‏.‏

وقال ابن حجر في ‏(‏الفتح‏)‏‏:‏ إنه لم يقف عليه في شىء من الطرق، وأما الإمام أحمد رحمه اللَّه فإن جميع أنواع صلاة الخوف الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم جائزة عنده، والمختار منها عنده صلاة ذات الرقاع التي قدمنا اختيار الشافعي لها أيضًا، وهي أن يصلي الإمام بالطائفة الأولى ركعة ثم يتمّون لأنفسهم ويسلّمون ويذهبون إلى وجوه العدو؛ ثم تأتي الطائفة الأخرى فيصلّي بهم الركعة الأخرى ثم يصلّون ركعة فإذا أتموها وتشهدوا سلّم بهم‏.‏

وأما الإمام أبو حنيفة رحمه اللَّه فالمختار منها عنده، أن الإمام يصلّي بالطائفة الأولى ركعة إن كان مسافرًا، أو كانت صبحًا مثلاً، واثنتين إن كان مقيمًا، ثم تذهب هذه الطائفة الأولى إلى وجوه العدو، ثم تجىء الطائفة الأخرى ويصلّي بهم ما بقي من الصلاة ويسلّم، وتذهب هذه الطائفة الأخيرة إلى وجوه العدو، وتجىء الطائفة الأولى، وتتم بقيّة صلاتها بلا قراءة؛ لأنهم لاحقون، ثم يذهبون إلى وجوه العدو، وتجىء الطائفة الأخرى فيتمّون بقية صلاتهم بقراءة؛ لأنهم مسبوقون، واحتجّوا لهذه الكيفية بحديث ابن عمر المتقدم وقد قدمنا أن هذه الكيفية ليست في رواية ‏"‏ الصحيحين ‏"‏ وغيرهما لحديث ابن عمر‏.‏

وقد قدمنا أيضًا من حديث ابن مسعود عند أبي داود أن الطائفة الأخرى لما صلّوا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم الركعة الأخرى أتمّوا لأنفسهم فوالوا بين الركعتين، ثم ذهبوا إلى وجوه العدو فجاءت الطائفة الأولى فصلّوا ركعتهم الباقية، هذا هو حاصل المذاهب الأربعة في صلاة الخوف‏.‏

وقال النووي في ‏"‏ شرح المهذب ‏"‏ صلاة ذات الرقاع أفضل من صلاة بطن نخل على أصح الوجهين؛ لأنها أعدل بين الطائفتين؛ ولأنها صحيحة بالإجماع وتلك صلاة مفترض خلف متنفل وفيها خلاف للعلماء‏.‏والثاني، وهو قول أبي إسحاق صلاة بطن نخل أفضل لتحصل كل طائفة فضيلة جماعة تامة‏.‏ واعلم أن الإمام في الحضرية يصلّي بكل واحدة من الطائفتين ركعتين، وفي السفرية ركعة ركعة، ويصلّى في المغرب بالأولى ركعتين عند الأكثر‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ يصلّي بالأولى في المغرب ركعة، واعلم أن التحقيق أن غزوة ذات الرقاع بعد خيبر، وإن جزم جماعة كثيرة من المؤرخين بأن غزوة ذات الرقاع قبل خيبر، والدليل على ذلك الحديث الصحيح أن قدوم أبي موسى الأشعري على النبيّ صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر مع الحديث الصحيح أن أبا موسى شهد غزوة ذات الرقاع‏.‏

قال البخاري في ‏"‏ صحيحه ‏"‏‏:‏ حدثني محمد بن العلاء، حدثنا أبو سامة، حدثنا بريد بن عبد اللَّه عن أبي بردة؛ عن أبي موسى رضي اللَّه عنه قال‏:‏ ‏"‏ بلغنا مخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه أنا وأخوان لي أنا أصغرهم، أحدهما أبو بردة، والآخر أبو رهم، إما قال بضع، وإما قال في ثلاثة وخمسين، أو اثنين وخمسين رجلاً من قومي، فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب فأقمنا معه حتى قدمنا جميعًا، فوافقنا النبيّ صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر ‏"‏ الحديث‏.‏‏.‏‏.‏، وفيه التصريح بأن قدوم أبي موسى حين افتتاح خيبر‏.‏

وقد قال البخاري أيضًا‏:‏ حدّثنا محمد بن العلاء، حدّثنا أبو أسامة عن بريد بن أبي بردة عن أبي بريدة عن أبي موسى رضي اللَّه عنه قال‏:‏ ‏"‏ خرجنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في غزاة ونحن في ستة نفر بيننا بعير نعتقبه فنقبت أقدامنا ونقبت قدماي وسقطت أظفاري، وكنا نلف على أرجلنا الخرق فسميت غزوة ذات الرقاع ‏"‏ الحديث‏.‏ فهذان الحديثان الصحيحان فيهما الدلالة الواضحة على تأخر ذات الرقاع عن خيبر، وقد قال البخاري رحمه اللَّه‏:‏ باب غزوة ذات الرقاع وهي غزوة محارب خصفة من بني ثعلبة من غطفان فنزل نخلاً وهي بعد خيبر؛ لأن أبا موسى جاء بعد خيبر الخ‏.‏ وإنما بيّنا هذا ليعلم به أنه لا حجة في عدم صلاة الخوف في غزوة الخندق على انهامشروعة في الحضر بدعوى أن ذات الرقاع قبل الخندق وأن صلاة الخوف كانت مشروعة قبل غزوة الأحزاب التي هي غزوة الخندق، وأنه صلى الله عليه وسلم ما تركها مع أنهم شغلوه وأصحابه عن صلاة الظهر والعصر إلى الليل إلا لأنها لم تشرع في الحضر، بل التحقيق أن صلاة الخوف ما شرعت إلا بعد الخندق وأشار أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي إلى غزوة ذات الرقاع بقوله‏:‏

ثم إلى محارب وثعلبة ذات الرقاع ناهزوا المضاربة

ولم يكن حرب وغورث جرى بها له الذي لدعثور جرى

مع النبي وعلى المعتمد جرت لواحد بلا تعدد


والناظم هذا يرى أنها قبل خيبر تبعًا لابن سيد الناس ومن وافقه، ومما اختلف فيه العلماء من كيفيات صلاة الخوف صلاة ذي قرد، وهي أن تصلّى كل واحدة مع الإمام ركعة واحدة وتقتصر عليها، وقد قدمنا ذلك من حديث ابن عباس عند مسلم، وأبي داود، والنسائي، وابن ماجه‏.‏ ومن حديث حذيفة عند أبي داود، والنسائي، وهذه الكيفية هي التي صلاّها حذيفة بن اليمان لما قال سعيد بن العاص بطبرستان‏:‏ أيّكم صلّى صلاة الخوف مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ‏؟‏ فقال حذيفة‏:‏ أنا، وصلّى بهم مثل ما ذكرنا كما أخرجه النسائي عنه، وعن زيد بن ثابت ورواه أبو داود عن ثعلبة بن زهدم وهو الذي رواه من طريقه النسائي، ولفظ أبي داود عن ثعلبة بن زهدم، قال‏:‏ كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان فقام فقال‏:‏ أيكم صلّى مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ‏؟‏ فقال حذيفة‏:‏ أنا‏.‏ فصلى بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا‏.‏

قال أبو داود‏:‏ وكذا رواه عبيد اللَّه بن عبد اللَّه ومجاهد عن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعبد اللَّه بن شقيق عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويزيد الفقير وأبو موسى‏.‏

قال أبو داود‏:‏ رجل من التابعين ليس بالأشعري جميعًا عن جابر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد قال بعضهم عن شعبة في حديث يزيد الفقير إنهم قضوا ركعة أخرى، وكذلك رواه سماك الحنفي عن ابن عمر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكذلك رواه زيد بن ثابت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ فكانت للقوم ركعة ركعة، وللنبيّ صلى الله عليه وسلم ركعتين‏.‏اهـ منه بلفظه‏.‏

وقال القرطبي في ‏"‏ تفسيره ‏"‏ ما نصّه‏:‏ قال السدي إذا صليت في السفر ركعتين فهو تمام، والقصر لا يحلّ إلاّ أن تخاف، فهذه الآية مبيحة أن تصلي كل طائفة ركعة لا تزيد عليها شيئًا؛ ويكون للإمام ركعتان، وروي نحوه عن ابن عمر وجابر بن عبد اللَّه وكعب وفعله حذيفة بطبرستان، وقد سأله الأمير سعيد بن العاص عن ذلك، وروي عن ابن عباس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى كذلك في غزوة ذي قرد ركعة لكل طائفة ولم يقضوا، وروي عن جابر بن عبد اللَّه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى بأصحابه كذلك يوم غزوة محارب خصفة وبني ثعلبة، وروى أبو هريرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى كذلك بين ضجنان وعسفان، وبكون كل من الطائفتين تقتصر على ركعة واحدة‏.‏

قال أيضًا إسحاق‏:‏ وروي عن الإمام أحمد وجمهور العلماء على أن الاقتصار على ركعة واحدة في الخوف لا يجوز، وأجابوا عن الأحاديث الواردة بذلك من وجهين‏:‏

الأول‏:‏ أن المراد بقول الصحابة الذين رووا ذلك ولم يقضوا أنهم بعدما أمنوا وزال الخوف، لم يقضوا تلك الصلاة التي صلّوها في حالة الخوف وتكون فيه فائدة أن الخائف إذا أمن لا يقضى ما صلّى على تلك الهيئة المخالفة لهيئة صلاة الأمن ولهذا القول له وجه من النظر‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أن قولهم في الحديث ولم يقضوا، أي في علم من روى ذلك؛ لأنه قد روى أنهم قضوا ركعة في تلك الصلاة بعينها، ورواية من زاد أولى قاله القرطبي وابن عبد البر، ويدلّ له ما تقدم من رواية يزيد الفقير عن جابر من طريق شعبة عند أبي داود، أنهم قضوا ركعة أخرى والمثبت مقدم على النافي ويؤيد هذه الرواية كثرة الروايات الصحيحة بعدم الاقتصار على واحدة في كيفيات صلاة الخوف، واللَّه تعالى أعلم‏.‏

وحاصل ما تقدم بيانه من كيفيات صلاة الخوف خمس، وهي صلاة المسايفة الثابتة في صريح القرءان، وصلاة بطن نخل، وصلاة عسفان، وصلاة ذات الرقاع، وصلاة ذي قرد‏.‏ وقد أشار الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي إلى غزوة ذات قرد بقوله‏:‏ فغزوة الغابة وهي ذو قرد خرج في إثر لقاحه وجد

وناشها سلمة بن الأكوع وهو يقول اليوم يوم الرضع

وفرض الهادي له سهمين لسبقه الخيل على الرجلين

واستنقذوا من ابن حصن عشرا وقسم النبيّ فيهم جزرا


وقد جزم البخاري في ‏"‏ صحيحه ‏"‏ بأن غزوة ذات قرد قبل خيبر بثلاثة ليال،

وأخرج نحو ذلك مسلم في ‏"‏ صحيحه ‏"‏ عن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال‏:‏ فرجعنا من الغزوة إلى المدينة، فواللَّه ما لبثنا بالمدينة إلا ثلاث ليال حتى خرجنا إلى خيبر، فما في الصحيح أثبت مما يذكره أهل السير مما يخالف ذلك، كقول ابن سعد‏:‏ إنها كانت في ربيع الأول سنة ستّ قبل الحديبية، وكقول ابن إسحاق‏:‏ إنها كانت في شعبان من سنة ستّ بعد غزوة لحيان بأيام‏.‏

ومال ابن حجر في ‏(‏فتح الباري‏)‏ إلى الجمع بين ما في الحديث الصحيح وبين ما ذكره أهل السير بتكرر الخروج إلى ذي قرد، وقرد بفتحتين في رواية الحديث وأهل اللغة يذكرون أنه بضم ففتح أو بضمتين، وقد وردت صلاة الخوف على كيفيات أُخر غير ما ذكرنا‏.‏

قال ابن القصار المالكي‏:‏ إن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاّها في عشرة مواضع‏.‏

وقال ابن العربي المالكي‏:‏ روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه صلّى صلاة الخوف أربعًا وعشرين مرة‏.‏

قال مقيده عفا اللَّه عنه‏:‏ الذي يظهر واللَّه تعالى أعلم، أن أفضل الكيفيات الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف، ما كان أبلغ في الاحتياط للصلاة والتحفظ من العدوّ‏.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الهدى

الهدى


عدد المساهمات : 326
التميز : 1
تاريخ التسجيل : 14/10/2009

تفسير اضواء البيان فى ايضاح القران بالقران - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: تفسير اضواء البيان فى ايضاح القران بالقران   تفسير اضواء البيان فى ايضاح القران بالقران - صفحة 2 Emptyالإثنين يناير 11, 2010 5:09 am



تنبيهــان


الأول‏:‏ آية صلاة الخوف هذه من أوضح الأدلة على وجوب الجماعة؛ لأن الأمر بها في هذا الوقت الحرج دليل واضح على أنها أمر لازم؛ إذ لو كانت غير لازمة لما أمر بها في وقت الخوف؛ لأنه عذر ظاهر‏.‏


الثاني‏:‏ لا تختص صلاة الخوف بالنبيّ صلى الله عليه وسلم بل مشروعيتها باقية إلى يوم القيامة، والاستدلال على خصوصها به صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ‏}‏، استدلال ساقط، وقد أجمع الصحابة وجميع المسلمين على ردّ مثله في قوله‏:‏ ‏{‏خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏، واشتراط كونه صلى الله عليه وسلم فيهم، إنما ورد لبيان الحكم لا لوجوده، والتقدير بيّن لهم بفعلك لكونه أوضح من القول كما قاله ابن العربي وغيره، وشذّ عن الجمهور أبو يوسف والمزني وقال بقولهما الحسن بن زياد واللؤلؤي وإبراهيم بن علية فقالوا‏:‏ أن صلاة الخوف لم تشرع بعده صلى الله عليه وسلم واحتجوا بمفهوم الشرط في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ‏}‏، وردّ عليهم بإجماع الصحابة عليها بعده صلى الله عليه وسلم، وبقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ صلّوا كما رأيتموني أصلّي ‏"‏، وعموم منطوق هذا الحديث مقدّم على ذلك المفهوم‏.‏


تنبيــه


قد قررتم ترجيح أن آية‏:‏ ‏{‏وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا‏}‏، في صلاة الخوف لا صلاة السفر، وإذن فمفهوم الشرط في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ‏}‏، يفهم منه أن صلاة الخوف لا تشرع في الحضر‏.‏


فالجواب‏:‏ أن هذا المفهوم قال به ابن الماجشون، فمنع صلاة الخوف في الحضر، واستدلّ بعضهم أيضًا لمنعها فيه بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يصلّها يوم الخندق، وفات عليه العصران وقضاهما بعد المغرب، وبأنه صلى الله عليه وسلم لم يصلّها إلاّ في سفر، وجمهور العلماء على أنها تصلّى في الحضر أيضًا، وأجابوا بأن الشرط لا مفهوم مخالفة له أيضًا، لجريه على الغالب كما تقدم، أو لأنه نزل في حادثة واقعة مبينًا حكمها‏.‏


كما روي عن مجاهد قال‏:‏ كان النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعسفان والمشركون بضجنان، فتوافقوا، فصلّى النبيّ صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة تامّة بركوعها وسجودها، فهمّ بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم فنزلت،


وهذه الحادثة وقعت وهم مسافرون ضاربون في الأرض، وقد تقرر في الأصول أن من موانع اعتبار مفهوم المخالفة كون المنطوق نازلاً على حادثة واقعة، ولذا لم يعتبر مفهوم المخالفة في قوله‏:‏ ‏{‏إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا‏}‏، ولا في قوله‏:‏ ‏{‏لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ‏}‏؛ لأن كلاًّ منهما نزل على حادثة واقعة‏:‏


فالأول‏:‏ نزل في إكراه ابن أبي جواريه على الزنا، وهن يردن التحصن من ذلك‏.‏


والثاني‏:‏ نزل في قوم من الأنصار والوا اليهود من دون المؤمنين، فنزل القرءان في كل منهما ناهيًا عن الصورة الواقعة من غير إرادة التخصيص بها، وأشار إليه في ‏"‏المراقي‏"‏ بقوله في تعداد موانع اعتبار مفهوم المخالفة‏:‏ أو امتنان أو وفاق الواقع والجهل والتأكيد عند السامع


وأجابوا عن كونه صلى الله عليه وسلم لم يصلّها يوم الخندق بأن ذلك كان قبل نزول صلاة الخوف، كما رواه النسائي وابن حبان والشافعي، وبه تعلم عدم صحة قول من قال‏:‏ إن غزوة ذات الرقاع التي صلّى فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، كانت قبل الخندق، وأجابوا عن كونه لم يصلّها إلا في السفر، بأن السفر بالنسبة إلى صلاة الخوف وصف طردي، وعلّتها هي الخوف لا السفر، فمتى وجد الخوف وجد حكمها، كما هو ظاهر‏.‏


نكتــة


فإن قيل‏:‏ لم لا تكون كل هيئة من هيئات صلاة الخوف ناسخة للتي قبلها؛ لأنهم كانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث، فالجواب من وجهين‏:‏


الأول‏:‏ هو ما تقدم من أن العدو تارة يكونون إلى جهة القبلة وتارة إلى غير جهتها إلى آخر ما تقدم، وكل حالة تفعل فيها الهيئة المناسبة لها كما هو ظاهر‏.‏


الثاني‏:‏ هو ما حققه بعض الأصوليين كابن الحاجب والرهوني وغيرهما من أن الأفعال لا تعارض بينها أصلاً، إذ الفعل لا يقع في الخارج إلا شخصيًا لا كليًّا حتى ينافي فعلاً آخر، فليس للفعل الواقع قدر مشترك بينه وبين غيره، فيجوز أن يقع الفعل واجبًا في وقت، وفي وقت آخر بخلافه، وإذن فلا مانع من جواز الفعلين المختلفين في الهيئة لعبادة واحدة وعقده في ‏"‏مراقي السعود‏"‏ بقوله‏:‏ ولم يكن تعارض الأفعال في كل حالة من الأحوال




وما ذكره المحلي من دلالة الفعل على الجواز المستمر دون القول بحث فيه صاحب ‏(‏نشر البنود‏)‏ في شرح البيت المتقدم آنفًا، والعلم عند اللَّه تعالى‏.‏


وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة‏:‏ ‏{‏أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏، معناه‏:‏ ينالونكم بسوء‏.‏ فروع تتعلق بهذه الآية الكريمة على القول بأنها في قصر الرباعية كما يفهم من حديث يعلى بن أمية عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم عند مسلم وأحمد وأصحاب السنن كما تقدم‏.‏


الفرع الأول‏:‏ أجمع العلماء على مشروعية قصر الرباعية في السفر خلافًا لمن شذ وقال‏:‏ لا قصر إلا في حج أو عمرة، ومن قال‏:‏ لا قصر إلا في خوف، ومن قال‏:‏ لا قصر إلا في سفر طاعة خاصة، فإنها أقوال لا معول عليها عند أهل العلم، واختلف العلماء في الإتمام في السفر، هل يجوز أو لا ‏؟‏ فذهب بعض العلماء إلى أن القصر في السفر واجب‏.‏


وممن قال بهذا القول‏:‏ أبو حنيفة رحمه اللَّه وهو قول علي، وعمر، وابن عمر، ويروى عن ابن عباس وجابر، وبه قال الثوري وعزاه الخطابي في المعالم لأكثر علماء السلف وفقهاء الأمصار، ونسبه إلى علي وعمر وابن عمر وابن عباس وعمر بن عبد العزيز وقتادة والحسن قال‏:‏ وقال حماد بن أبي سليمان‏:‏ يعيد من صلّى في السفر أربعًا‏.‏اهـ‏.‏ منه بواسطة نقل الشوكاني رحمه اللَّه وحجة هذا القول الذي هو وجوب القصر ما قدمنا من الأحاديث عن عائشة، وابن عباس، وعمر رضي اللَّه عنهم بأن الصلاة فرضت ركعتين، فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر، ودليل هؤلاء واضح، وذهب جماعة من أهل العلم إلى جواز الإتمام والقصر، كما يجوز الصوم والإفطار، إلا أنهم اختلفوا هل القصر أو الإتمام أفضل ‏؟‏ وبهذا قال عثمان بن عفان، وسعد بن أبي وقاص، وعائشة رضي اللَّه عنهم‏.‏


قال النووي في ‏"‏شرح المهذب‏"‏ وحكاه العبدري عن هؤلاء يعني من ذكرنا وعن ابن مسعود وابن عمر وابن عباس والحسن البصري ومالك وأحمد وأبي ثور وداود، وهو مذهب أكثر العلماء، ورواه البيهقي عن سلمان الفارسي في اثني عشر من الصحابة‏.‏ وعن أنس والمسور بن مخرمة وعبد الرحمان بن الأسود وابن المسيب وأبي قلابة، واحتجّ أهل هذا القول بأمور‏:‏


الأول‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ‏}‏؛ لأن التعبير برفع الجناح دليل لعدم اللزوم‏.‏


الأمر الثاني‏:‏ هو ما قدمنا في حديث يعلى بن أمية عن عمر بن الخطاب من أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال في القصر في السفر‏:‏ ‏"‏ صدقة تصدق اللَّه بها عليكم ‏"‏ الحديث، فكونه صدقة وتخفيفًا يدلّ على عدم اللزوم‏.‏


الأمر الثالث‏:‏ هو ما رواه النسائي والبيهقي والدارقطني عن عائشة رضي اللَّه عنها أنها اعتمرت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأفطر هو صلى الله عليه وسلم وقصّر الصلاة وصامت هي وأتمت الصلاة، فأخبرته بذلك، فقال لها‏:‏ ‏"‏ أحسنت ‏"‏‏.‏


قال النووي في ‏"‏ شرح المهذب ‏"‏‏:‏ هذا الحديث رواه النسائي والدارقطني والبيهقي بإسناد حسن أو صحيح، قال‏:‏ وقال البيهقي في ‏"‏ السنن الكبرى ‏"‏‏.‏


قال الدارقطني‏:‏ إسناده حسن، وقال في ‏"‏ معرفة السنن ‏"‏ والآثار‏:‏ هو إسناد صحيح‏.‏


قال مقيده ـ عفا اللَّه عنه ـ‏:‏ الظاهر أن ما جاء في هذا الحديث من أن عمرة عائشة المذكورة في رمضان لا يصح؛ لأن المحفوظ الثابت بالروايات الصحيحة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في رمضان قط؛ لأنه لم يعتمر إلا أربع عمر‏:‏


الأولى‏:‏ عمرة الحديبية التي صده فيها المشركون عن البيت الحرام، عام ستّ‏.‏


الثانية‏:‏ عمرة القضاء التي وقع عليها عقد الصلح في الحديبية، وهي عام سبع‏.‏


الثالثة‏:‏ عمرة الجعرانة بعد فتح مكة، عام ثمان وكل هذه العمر الثلاث في شهر ذي القعدة بالإجماع وبالروايات الصحيحة‏.‏


الرابعة‏:‏ عمرته مع حجة في حجة الوداع، ورواية النسائي ليس فيها أن العمرة المذكورة في رمضان ولفظه‏:‏ أخبرني أحمد بن يحيىا الصوفي، قال‏:‏ حدّثنا أبو نعيم، قال‏:‏ حدّثنا العلاء بن زهير الأزدي، قال‏:‏ حدّثنا عبد الرحمان بن الأسود عن عائشة‏:‏ ‏"‏ أنها اعتمرت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قالت‏:‏ يا رسول اللَّه، بأبي أنت وأمي قصرتَ وأتممت وأفطرت وصمت‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ أحسنت يا عائشة ‏"‏، وما عاب علي ‏"‏‏.‏اهـ‏.‏


الأمر الرابع‏:‏ ما روي عن عائشة ـ رضي اللَّه عنها ـ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقصّر في السفر، ويتمّ ويفطر ويصوم‏.‏


قال النووي في ‏"‏ شرح المهذب ‏"‏‏:‏ رواه الدارقطني، والبيهقي وغيرهما‏.‏


قال البيهقي‏:‏ قال الدارقطني إسناده صحيح وضبطه ابن حجر في ‏"‏ التلخيص ‏"‏ بلفظ يقصر بالياء، وفاعله ضمير النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتتم بتائين وفاعله ضمير يعود إلى عائشة فيكون بمعنى الحديث الأول، ولكن جاء في بعض روايات الحديث التصريح بإسناد الإتمام المذكور للنبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏


قال البيهقي‏:‏ أخبرنا أبو بكر بن الحارث ‏(‏الفقيه، أنبأنا علي بن عمر الحافظ، حدّثنا المحاملي، حدّثنا سعيد بن محمد بن ثواب، حدّثنا أبو عاصم، حدّثنا عمر بن سعيد عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة رضي اللَّه عنها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقصّر في الصلاة ويتمّ ويفطر ويصوم‏.‏ قال عليّ‏:‏ هذا إسناد صحيح‏.‏اهـ‏.‏


قال البيهقي‏:‏ وله شاهد من حديث دلهم بن صالح، والمغيرة بن زياد، وطلحة بن عمرو وكلهم ضعيف‏.‏


الخامس‏:‏ إجماع العلماء على أن المسافر إذا اقتدى بمقيم لزمه الإتمام، ولو كان القصر واجبًا حتمًا لما جاز صلاة أربع خلف الإمام‏.‏


وأجاب أهل هذا القول عن حديث عمر وعائشة وابن عباس بأن المراد بكون صلاة السفر ركعتين أي‏:‏ لمن أراد ذلك، وعن قول عمر في الحديث‏:‏ تمام غير قصر بأن معناه أنها تامة في الأجر قاله النووي، ولا يخلو من تعسف وأجاب أهل القول الأول عن حجج هؤلاء قالوا‏:‏ إن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ‏}‏، في صلاة الخوف كما قدمنا، فلا دليل فيه لقصر الرباعية، قالوا‏:‏ ولو سلّمنا أنه في قصر الرباعية فالتعبير بلفظ ‏{‏وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ‏}‏، لا ينافي الوجوب كما اعترفتم بنظيره في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ‏}‏، لأن السعي فرض عند الجمهور‏.‏ وعن قوله في الحديث‏:‏ ‏"‏صدقة تصدّق اللَّه بها عليكم‏"‏، بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بقبولها في قوله‏:‏ ‏"‏فاقبوا صدقته‏"‏، والأمر يقتضي الوجوب فليس لنا عدم قبولها مع قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏فاقبلوها‏"‏، وأجابوا عن الثالث والرابع بأن حديثي عائشة المذكورين لا يصح واحد منها واستدلّوا على عدم صحة ذلك بما ثبت في الصحيح عن عروة أنها تأولت في إتمامها ما تأول عثمان، فلو كان عندها في ذلك رواية من النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقل عنها عروة أنها تأولت‏.‏


وقال ابن القيم في ‏"‏زاد المعاد‏"‏ ما نصّه‏:‏ وسمعت ابن تيمية يقول‏:‏ هذا الحديث كذب على عائشة، ولم تكن عائشة لتصلّي بخلاف صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم وسائر الصحابة، وهي تشاهدهم يقصرون ثم تتم هي وحدها بلا موجب، كيف وهي القائلة‏:‏ فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فزيد في صلاة الحضر، وأقرت صلاة السفر فكيف يظن أنها تزيد على ما فرض اللَّه وتخالف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه‏.‏


وقال الزهري لهشام بن عروة لما حدثه عن أبيه عنها بذلك، فما شأنها كانت تتم الصلاة فقال‏:‏ تأوّلت كما تأوّل عثمان فإذا كان النبيّ صلى الله عليه وسلم قد حسن فعلها وأقرها عليه، فما للتأويل حينئذ وجه، ولا يصح أن يضاف إتمامها إلى التأويل على هذا التقدير، وقد أخبر ابن عمر أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يكن يزيد في السفر على ركعتين ولا أبو بكر ولا عمر، أفيظن بعائشة أم المؤمنين مخالفتهم وهي تراهم يقصرون‏.‏ وأما بعد موته صلى الله عليه وسلم، فإنها أتمت كما أتمّ عثمان، وكلاهما تأوّل تأويلاً‏.‏ والحجّة في روايتهم لا في تأويل الواحد منهم مع مخالفة غيره له، واللَّه أعلم‏.‏اهـ‏.‏ محل الغرض منه بلفظه‏.‏


قال مقيده عفا اللَّه عنه‏:‏ إما استبعاد مخالفة عائشة رضي اللَّه عنها للنبيّ صلى الله عليه وسلم في حياته مع الاعتراف بمخالفتها له صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، فإنه يوهم أن مخالفته بعد وفاته سائغة، ولا شكّ أن المنع من مخالفته في حياته باق بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، فلا يحلّ لأحد البتة مخالفة ما جاء به من الهدى إلى يوم القيامة‏:‏ فعلاً كان أو قولاً أو تقريرًا، ولا يظهر كل الظهور أن عائشة تخالف هدي الرسول صلى الله عليه وسلم باجتهاد ورواية من روى أنها تأولت تقتضي نفي روايتها عن النبيّ صلى الله عليه وسلم شيئًا في ذلك، والحديث المذكور فيه إثبات أنها روت عنه ذلك، والمثبت مقدم على النافي، فبهذا يعتضد الحديث الذي صححه بعضهم وحسنه بعضهم كما تقدم‏.‏


والتحقيق أن سند النسائي المتقدم الذي روى به هذا الحديث صحيح، وإعلال ابن حبان له بأن فيه العلاء بن زهير الأزدي، وقال فيه‏:‏ إنه يروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الإثبات فبطل الاحتجاج به، مردود بأن العلاء المذكور ثقة كما قاله ابن حجر في ‏"‏التقريب‏"‏ وغيره وإعلال بعضهم له بأن عبد الرحمان بن الأسود لم يدرك عائشة مردود بأنه أدركها‏.‏


قال الدارقطني وعبد الرحمان أدرك عائشة فدخل عليها وهو مراهق وذكر الطحاوي عن عبد الرحمان أنه دخل على عائشة بالاستئذان بعد احتلامه، وذكر صاحب ‏"‏ الكمال ‏"‏ أنه سمع منها، وذكر البخاري في ‏"‏ تاريخه ‏"‏ وابن أبي شيبة ما يشهد لذلك، قاله ابن حجر وإعلال الحديث المذكور بأنه مضطرب؛ لأن بعض الرواة يقول عن عبد الرحمان بن الأسود عن أبيه عن عائشة، وبعضهم يقول عن عبد الرحمان عن عائشة مردود أيضًا، بأن رواية من قال عن أبيه خطأ والصواب عن عبد الرحمان بن الأسود عن عائشة‏.‏


قال البيهقي بعد أن ساق أسانيد الروايتين‏:‏ قال أبو بكر النيسابوري‏:‏ هكذا قال أبو نعيم عن عبد الرحمان عن عائشة، ومن قال عن أبيه في هذا الحديث فقط أخطأ‏.‏اهـ‏.‏


فالظاهر ثبوت هذا الحديث وهو يقوي حجة من لم يمنع إتمام الرباعية في السفر وهم أكثر العلماء، وذهب الإمام مالك بن أنس إلى أن قصر الرباعية في السفر سنّة، وأن من أتم أعاد في الوقت؛ لأن الثابت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يواظب على القصر في أسفاره وكذلك أبو بكر وعمر وعثمان في غير أيام منى ولم يمنع مالك الإتمام؛ للأدلة التي ذكرنا والعلم عند اللَّه تعالى‏.‏


الفرع الثاني‏:‏ اختلف العلماء في تحديد المسافة التي تقصر فيها الصلاة‏.‏ فقال مالك والشافعي وأحمد‏:‏ هي أربعة برد، والبريد أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، وتقريبه بالزمان مسيرة يومين سيرًا معتدلاً، وعندهم اختلاف في قدر الميل معروف واستدلّ من قال بهذا القول بما رواه مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد اللَّه عن أبيه أنه ركب إلى ريم فقصر الصلاة في مسيره ذلك‏.‏


قال مالك‏:‏ وذلك نحو من أربعة برد، وريم موضع‏.‏ قال بعض شعراء المدينة‏:‏ فكم من حرة بين المنقى إلى أُحد إلى جنبات ريم


وبما رواه مالك عن نافع عن سالم بن عبد اللَّه، أن عبد اللَّه بن عمر ركب إلى ذات النصب فقصر الصلاة في مسيره ذلك‏.‏


قال مالك‏:‏ وبين ذات النصب والمدينة أربعة برد، وبما قال مالك‏:‏ إنه بلغه أن عبد اللَّه بن عباس كان يقصر الصلاة في مثل ما بين مكة والطائف، وفي مثل ما بين مكة وعسفان، وفي مثل ما بين مكّة وجدّة‏.‏


قال مالك‏:‏ وذلك أربعة برد وذلك أحب ما تقصر فيه الصلاة إليّ، وبما رواه مالك عن نافع أنه كان يسافر مع ابن عمر البريد فلا يقصر الصلاة‏.‏ كل هذه الآثار المذكورة في ‏"‏الموطأ‏"‏، وممن قال بهذا ابن عمر وابن عباس كما ذكرناه عنهما‏.‏


وقال البخاري رحمه اللَّه في ‏"‏صحيحه‏"‏‏:‏ وكان ابن عمر وابن عباس رضي اللَّه عنهم يقصّران ويفطران في أربعة برد، وهي ستّة عشر فرسخًا‏.‏ا هـ‏.‏ وبه قال الحسن البصري والزهري والليث بن سعد وإسحاق وأبو ثور، نقله عنهم النووي، وذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه لا يجوز القصر في أقل من مسافة ثلاثة أيام، وممن قال به أبو حنيفة، وهو قول عبد اللَّه بن مسعود، وسويد بن غفلة، والشعبي، والنخعي، والحسن بن صالح، والثوري، وعن أبي حنيفة أيضًا يومان وأكثر الثالث، واحتجّ أهل هذا القول بحديث ابن عمر وحديث أبي سعيد الثابتين في الصحيح‏:‏ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا ومعها ذو محرم‏"‏، وبحديث‏:‏ ‏"‏مسح المسافر على الخفّ ثلاثة أيام ولياليهن‏"‏، ووجه الاحتجاج بهذا الحديث الأخير أنه يقتضي أن كل مسافر يشرع له مسح ثلاثة أيام ولا يصح العموم في ذلك إلا إذا قدر أقلّ مدّة السفر بثلاثة أيام؛ لأنها لو قدرت بأقل من ذلك لا يمكنه استيفاء مدته؛ لانتهاء سفره فاقتضى ذلك تقديره بالثلاثة وإلا لخرج بعض المسافرين عنه‏.‏ا هـ‏.‏


والاستدلال بالحديثين غير ظاهر فيما يظهر لي؛ لأن المراد بالحديث الأول‏:‏ أن المرأة لا يحل لها سفر مسافة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم، وهذا لا يدلّ على تحديد أقل ما يسمى سفرًا، ويدلّ له أنه ورد في بعض الروايات الصحيحة لا تسافر المرأة يومين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم‏.‏


وفي بعض الروايات الصحيحة‏:‏ ‏"‏لا يحلّ لإمرأة تؤمن باللَّه واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حرمة‏"‏، وفي رواية لمسلم ‏"‏مسيرة يوم‏"‏، وفي رواية له ‏"‏ ليلة ‏"‏، وفي رواية أبي داود لا ‏"‏تسافر بريدًا‏"‏، ورواه الحاكم، وقال‏:‏ صحيح الإسناد‏.‏


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الهدى

الهدى


عدد المساهمات : 326
التميز : 1
تاريخ التسجيل : 14/10/2009

تفسير اضواء البيان فى ايضاح القران بالقران - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: تفسير اضواء البيان فى ايضاح القران بالقران   تفسير اضواء البيان فى ايضاح القران بالقران - صفحة 2 Emptyالإثنين يناير 11, 2010 5:11 am


وقال البيهقي في ‏"‏السنن الكبرى‏"‏‏:‏ وهذه الرواية في الثلاثة واليومين واليوم صحيحة، وكأن النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ سئل عن المرأة تسافر ثلاثًا من غير محرم، فقال‏:‏ ‏"‏لا‏"‏، وسئل عنها تسافر يومين من غير محرم، فقال‏:‏ ‏"‏لا‏"‏، ويومًا فقال‏:‏ ‏"‏لا‏"‏، فأدى كل واحد منهم ما حفظ ولا يكون عدد من هذه الأعداد حدًّا للسفر‏.‏ اهـ منه بلفظه‏.‏

فظهر من هذا أن الاستدلال على أقل السفر بالحديث غير متجه كما ترى لا سيما أن ابن عمر راويه قد خالفه كما تقدم، والقاعدة عند الحنفية أن العبرة بما رأى الصحابي لا بما روى‏.‏ وأما الاستدلال بحديث توقيت مسح المسافر بثلاثة أيام بلياليهن فهو أيضًا غير متجه، لأنه إذا انتهى سفره قبلها صار مقيمًا وزال عنه اسم السفر وليس في الحديث أنه لا بد من أن يسافر ثلاثة بل غاية ما يفيده الحديث أن المسافر له في المسح على الخف مدة ثلاثة أيام، فإن مكثها مسافرًا فذلك، وإن أتم سفره قبلها صار غير مسافر ولا إشكال في ذلك، وذهب جماعة من أهل العلم‏:‏ إلى أن القصر يجوز في مسيرة يوم تام، وممن قال به الأوزاعي وابن المنذر واحتجّوا بما تقدم في بعض الروايات الصحيحة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أطلق اسم السفر على مسافة يوم والسفر هو مناط القصر، وبما رواه مالك في ‏"‏الموطأ‏"‏ عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد اللَّه، أن عبد اللَّه بن عمر كان يقصر الصلاة في مسيرة اليوم التام، وظاهر صنيع البخاري أنه يختار أنها يوم وليلة؛ لأنه قال‏:‏ ‏"‏باب في كم يقصر الصلاة وسمى النبيّ صلى الله عليه وسلم يومًا وليلة سفرًا‏"‏؛ لأن قوله‏:‏ وسمى النبيُّ الخ‏.‏‏.‏‏.‏ بعد قوله‏:‏ ‏"‏في كم يقصر الصلاة‏"‏، يدلّ على أن ذلك هو مناط القصر عنده كما هو ظاهر‏.‏

وذهب بعض العلماء إلى جواز القصر في قصير السفر وطويله

وممن قال بهذا داود الظاهري، قال عنه بعض أهل العلم‏:‏ حتى إنه لو خرج إلى بستان خارج البلد قصر، واحتجّ أهل هذا القول بإطلاق الكتاب والسنة جواز القصر بلا تقييد للمسافة، وبما رواه مسلم في ‏"‏صحيحه‏"‏ عن يحيىا بن يزيد الهنائي قال‏:‏ سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة فقال‏:‏ كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ، شعبة الشَّاك، صلّى ركعتين‏"‏، هذا لفظ مسلم وبما رواه مسلم أيضًا في ‏"‏ الصحيح ‏"‏ عن جبير بن نفير قال‏:‏ ‏"‏ خرجت مع شرحبيل بن السمط إلى قرية على رأس سبعة عشر أو ثمانية عشر ميلاً فصلّى ركعتين فقلت له‏.‏ فقال‏:‏ رأيت عمر صلّى بذي الحليفة ركعتين فقلت له، فقال‏:‏ إنما أفعل كما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يفعل ‏"‏، وأجيب من جهة الجمهور بأنه لا دليل في حديثي مسلم المذكورين؛ لأنه ليس المراد بهما أن تلك المسافة المذكورة فيهما هي غاية السفر، بل معناه أنه كان إذا سافر سفرًا طويلاً فتباعد ثلاثة أميال قصر؛ لأن الظاهر أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يسافر عند دخول وقت الصلاة إلا بعد أن يصليها فلا تدركه الصلاة الأخرى إلا وقد تباعد من المدينة، وكذلك حديث شرحبيل المذكور‏.‏ فقوله إن عمر رضي اللَّه عنه صلّى بذي الحليفة ركعتين محمول على ما ذكرناه في حديث أنس وهو أنه كان مسافرًا إلى مكة أو غيرها فمر بذي الحليفة وأدركته الصلاة فصلّى ركعتين لا أن ذا الحليفة غاية سفره، قاله النووي وغيره، وله وجه من النظر ولم ينقل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم القصر صريحًا فيما دون مرحلتين كما جزم به النووي‏.‏

قال مقيده عفا اللَّه عنه قال ابن حجر في ‏"‏ تلخيص الحبير ‏"‏‏:‏ وروى سعيد بن منصور عن أبي سعيد قال‏:‏ ‏"‏ كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا سافر فرسخًا يقصر الصلاة وسكت عليه ‏"‏، فإن كان صحيحًا فهو ظاهر في قصر الصلاة في المسافة القصيرة ظهورًا أقوى من دلالة حديثي مسلم المتقدمين‏.‏

قال مقيده عفا اللَّه عنه‏:‏ هذا الذي ذكرنا هو حاصل كلام العلماء في تحديد مسافة القصر، والظاهر أنه ليس في تحديدها نص صريح، وقد اختلف فيها على نحو من عشرين قولاً، وما رواه البيهقي والدارقطني والطبراني عن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ ياأهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة برد ‏"‏ ضعيف؛ لأن في إسناده عبد الوهاب بن مجاهد وهو متروك، وكذبه الثوري‏.‏

وقال الأزدي‏:‏ لا تحل الرواية عنه وراويه عنه إسماعيل بن عياش، وروايته عن غير الشاميين ضعيفة وعبد الوهاب المذكور حجازي لا شامي، والصحيح في هذا الحديث أنه موقوف على ابن عباس رواه عنه الشافعي بإسناد صحيح، ورواه عنه مالك في ‏"‏ الموطأ ‏"‏ بلاغًا، وقد قدمناه‏.‏

والظاهر أن الاختلاف في تحديد المسافة من نوع الاختلاف في تحقيق المناط، فكل ما كان يطلق عليه إسم السفر في لغة العرب يجوز القصر فيه؛ لأنه ظاهر النصوص ولم يصرف عنه صارف من نقل صحيح ومطلق الخروج من البلد لا يسمى سفرًا، وقد كان صلى الله عليه وسلم يذهب إلى قباء وإلى أُحد ولم يقصر الصلاة، والحديثان اللذان قدمنا عن مسلم محتملان وحديث سعيد بن منصور المتقدم لا نعلم أصحيح هو أم لا ‏؟‏ فإن كان صحيحًا كان نصًّا قويًّا في قصر الصلاة في المسافة القصيرة والطويلة، وقصر أهل مكّة مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع دليل عند بعض العلماء على القصر في المسافة غير الطويلة، وبعضهم يقول‏:‏ القصر في مزدلفة، ومنى، وعرفات، من مناسك الحجّ، واللَّه تعالى أعلم‏.‏

قال مقيده عفا اللَّه عنه‏:‏ أقوى الأقوال فيما يظهر لي حجة، هو قول من قال‏:‏ إن كل ما يسمى سفرًا ولو قصيرًا تقصر فيه الصلاة؛ لإطلاق السفر في النصوص، ولحديثي مسلم المتقدمين، وحديث سعيد بن منصور، وروى ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن مسعر، عن محارب، سمعت ابن عمر يقول‏:‏ ‏"‏ إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر ‏"‏‏.‏

وقال الثوري‏:‏ سمعت جبلة بن سحيم، سمعت ابن عمر يقول‏:‏ ‏"‏ لو خرجت ميلاً قصرت الصلاة ‏"‏‏.‏

قال ابن حجر في ‏"‏ الفتح ‏"‏‏:‏ إسناد كل منهما صحيح‏.‏اهـ والعلم عند اللَّه تعالى‏.‏

الفرع الثالث‏:‏ يبتدئ المسافر القصر، إذا جاوز بيوت بلده بأن خرج من البلد كله، ولا يقصر في بيته إذا نوى السفر، ولا في وسط البلد، وهذا قول جمهور العلماء منهم الأئمة الأربعة، وأكثر فقهاء الأمصار، وقد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قصر بذي الحليفة، وعن مالك أنه إذا كان في البلد بساتين مسكونة أن حكمها حكم البلد، فلا يقصر حتى يجاوزها، واستدل الجمهور؛ على أنه لا يقصر إلا إذا خرج من البلد، بأن القصر مشروط بالضرب في الأرض، ومن لم يخرج من البلد لم يضرب في الأرض، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه إن أراد السفر قصر وهو في منزله، وذكر ابن المنذر، عن الحارث بن أبي ربيعة أنه أراد سفرًا فصلىّ بهم ركعتين في منزله وفيهم الأسود بن يزيد، وغير واحد من أصحاب ابن مسعود قال‏:‏ وروينا معناه عن عطاء، وسليمان بن موسى قال‏:‏ وقال مجاهد‏:‏ لا يقصر المسافر نهارًا حتى يدخل الليل، وإن خرج بالليل لم يقصر حتى يدخل النهار، وعن عطاء، أنه قال‏:‏ إذا جاوز حيطان داره فله القصر‏.‏

قال النووي‏:‏ فهذان المذهبان فاسدان فمذهب مجاهد منابذ للأحاديث الصحيحة في قصر النبيّ صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة، حين خرج من المدينة، ومذهب عطاء، وموافقيه منابذ للسفر‏.‏اهـ‏.‏ منه، وهو ظاهر كما ترى‏.‏

الفرع الرابع‏:‏ اختلف العلماء في قدر المدة التي إذا نوى المسافر إقامتها لزمه الإتمام، فذهب مالك، والشافعي، وأبو ثور، وأحمد في إحدىا الروايتين إلى أنها أربعة أيام، والشافعية يقولون‏:‏ لا يحسب فيها يوم الدخول، ولا يوم الخروج، ومالك يقول‏:‏ إذا نوى إقامة أربعة أيام صحاح أتم‏.‏

وقال ابن القاسم‏:‏ في العتيبة يلغى يوم دخوله ولا يحسبه، والرواية المشهورة عن أحمد، أنها ما زاد على إحدى وعشرين صلاة‏.‏

وقال أبو حنيفة رحمه اللَّه‏:‏ هي نصف شهر، واحتجّ من قال بأنها أربعة أيام، بما ثبت في الصحيح من حديث العلاء بن الحضرمي رضي اللَّه عنه أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ ثلاث ليال يمكثهن المهاجر بمكة بعد الصدر‏"‏، هذا لفظ مسلم، وفي رواية له عنه‏:‏ ‏"‏ للمهاجر إقامة ثلاث ليال بعد الصدر بمكة ‏"‏، وفي رواية له عنه‏:‏ ‏"‏ يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثًا ‏"‏، وأخرجه البخاري في المناقب، عن العلاء بن الحضرمي أيضًا بلفظ‏:‏ قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ثلاث للمهاجر بعد الصدر ‏"‏ اهـ‏.‏ قالوا فإذن النبيّ صلى الله عليه وسلم للمهاجرين في ثلاثة أيام يدلّ على أن من أقامها في حكم المسافر، وأن ما زاد عليها يكون إقامة والمقيم عليه الإتمام، وبما أخرجه مالك في ‏"‏ الموطأ ‏"‏ بسند صحيح، عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه أنه أجلى اليهود من الحجاز، ثم أذن لمن قدم منهم تاجرًا أن يقيم ثلاثًا ‏"‏، وأجيب عن هذا الدليل من جهة المخالف، بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما رخص لهم في الثلاث؛ لأنها مظنة قضاء حوائجهم، وتهيئة أحوالهم للسفر، وكذلك ترخيص عمر لليهود في إقامة ثلاثة أيام، والاستدلال المذكور له وجه من النظر؛ لأنه يعتضد بالقياس؛ لأن القصر شرع لأجل تخفيف مشقة السفر، ومن أقام أربعة أيام، فإنها مظنة لإذهاب مشقة السفر عنه، واحتجّ الإمام أحمد، على أنها ما زاد على إحدى وعشرين صلاة بما ثبت في الصحيح من حديث جابر، وابن عباس رضي اللَّه عنهم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ قدم مكة في حجّة الوداع صبح رابعة، فأقام النبيّ صلى الله عليه وسلم اليوم الرابع، والخامس، والسادس، والسابع، وصلّى الفجر بالأبطح يوم الثامن، فكان يقصّر الصلاة في هذه الأيام، وقد أجمع على إقامتها، وهي إحدى وعشرون صلاة؛ لأنها أربعة أيام كاملة، وصلاة الصبح من الثامن ‏"‏، قال‏:‏ فإذا أجمع أن يقيم، كما أقام النبيّ صلى الله عليه وسلم قصّر، وإذا أجمع على أكثر من ذلك أتمّ‏.‏

وروى الأثرم، عن أحمد رحمه اللَّه أن هذا الاحتجاج كلام ليس يفقهه كل الناس، وحمل الإمام أحمد حديث أنس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أقام بمكة في حجّة الوداع عشرًا يقصّر الصلاة على هذا المعنى الذي ذكرنا عنه، وأن أنسًا أراد مدة إقامته بمكّة ومنى ومزدلفة‏.‏

قال مقيده عفا اللَّه عنه‏:‏ وهذا لا ينبغي العدول عنه لظهور وجهه، ووضوح أنه الحق‏.‏

تنبيــه

حديث أنس هذا الثابت في الصحيح، لا يعارضه ما ثبت في الصحيح أيضًا، عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال‏:‏ ‏"‏أقام النبيّ صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يقصر‏"‏، فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا، وإن زدنا أتممنا؛ لأن حديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما في غزوة الفتح، وحديث أنس، في حجة الوداع، وحديث ابن عباس، محمول على أنه صلى الله عليه وسلم، ما كان ناويًا الإقامة؛ والإقامة المجرّدة عن نيْة لا تقطع حكم السفر عند الجمهور، واللَّه تعالى أعلم‏.‏

واحتجّ أبو حنيفة رحمه اللَّه لأنها نصف شهر، بما روى أبو داود من طريق ابن إسحاق، عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال‏:‏ ‏"‏أقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمكّة عام الفتح خمسة عشر، يقصّر الصلاة‏"‏ وضعف النووي في الخلاصة، رواية خمسة عشر‏.‏

قال الحافظ ابن حجر في ‏"‏الفتح‏"‏‏:‏ وليس بجيد؛ لأن رواتها ثقات، ولم ينفرد ابن إسحاق، فقد أخرجها النسائي، من رواية عراك بن مالك، عن عبيد اللَّه، عن ابن عباس كذلك، واختار أبو حنيفة رواية خمسة عشر، عن رواية سبعة عشر، ورواية ثمانية عشر، ورواية تسعة عشر؛ لأنها أقل ما ورد فيحمل غيرها على أنه وقع اتفاقًا، وأرجح الروايات، وأكثرها ورودًا في الروايات الصحيحة رواية تسعة عشر وبها أخذ إسحاق بن راهويه، وجمع البيهقي بين الروايات، بأن من قال‏:‏ تسعة عشر، عدّ يوم الدخول، ويوم الخروج، ومن قال‏:‏ سبع عشرة حذفهما، ومن قال‏:‏ ثماني عشرة حذف أحدهما‏.‏

أما رواية خمسة عشر، فالظاهر فيها أن الراوي ظن، أن الأصل رواية سبعة عشر فحذف منها، يوم الدخول، ويوم الخروج، فصار الباقي خمسة عشر، واعلم أن الإقامة المجردة عن النية فيها أقوال للعلماء‏:‏

أحدها‏:‏ أنه يتم بعد أربعة أيام‏.‏

والثاني‏:‏ بعد سبعة عشر يومًا‏.‏

والثالث‏:‏ ثمانية عشر‏.‏

والرابع‏:‏ تسعة عشر‏.‏

والخامس‏:‏ عشرين يومًا‏.‏

والسادس‏:‏ يقصر أبدًا حتى يجمع على الإقامة‏.‏

والسابع‏:‏ للمحارب أن يقصر، وليس لغيره القصر بعد إقامة أربعة أيام‏.‏

وأظهر هذه الأقوال أنه لا يقصر حتى ينوي الإقامة ولو طال مقامه من غير نية الإقامة، ويدلّ له قصر النبيّ صلى الله عليه وسلم مدّة إقامته في مكة عام الفتح، كما ثبت في الصحيح، وما رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن حبان والبيهقي عن جابر قال‏:‏ ‏"‏ أقام النبيّ صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين يومًا يقصر الصلاة ‏"‏‏.‏ وقد صحح هذا الحديث النووي وابن حزم، وأعلّه الدارقطني في العلل بالإرسال والانقطاع، وأن علي بن المبارك وغيره من الحفاظ رووه عن يحيىا بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمان بن ثوبان مرسلاً، وأن الأوزاعي رواه عن يحيىا عن أنس فقال‏:‏ ‏"‏بضع عشرة‏"‏ وبهذا اللفظ أخرجه البيهقي وهو ضعيف‏.‏

قال البيهقي بعد إخراجه له‏:‏ ولا أراه محفوظًا، وقد روي من وجه آخر عن جابر‏:‏ ‏"‏ بضع عشرة ‏"‏‏.‏اهـ‏.‏ وقد اختلف فيه على الأوزاعي ذكره الدارقطني في العلل وقال‏:‏ الصحيح عن الأوزاعي عن يحيىا أن أنسًا كان يفعله‏.‏ قال ابن حجر‏:‏ ويحيىا لم يسمع من أنس‏.‏

وقال النووي في ‏"‏شرح المهذب‏"‏‏:‏ قلت ورواية المسند تفرّد بها معمر بن راشد وهو إمام مجمع على جلالته وباقي الإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم، فالحديث صحيح؛ لأن الصحيح أنه إذا تعارض في الحديث إرسال وإسناد حكم بالمسند‏.‏اهـ‏.‏ منه وعقده صاحب ‏"‏المراقي‏"‏ بقوله‏:‏ والرفع والوصول وزيد اللفظ مقبولة عند إمام الحفظ

الخ‏.‏‏.‏‏.‏

واستدل أيضًا من قال بأن الإقامة المجردة عن النية لا تقطع حكم السفر بما أخرجه أبو داود والترمذي من حديث عمران بن حصين رضي اللَّه عنهما قال‏:‏ ‏"‏غزوت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم وشهدت معه الفتح فأقام بمكّة ثماني عشرة ليلة لا يصلّي إلا ركعتين يقول‏:‏ ‏(‏يا أهل البلدة صلوا أربعًا فإنا سفر‏"‏، فقول النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ‏"‏ فإنا سفر ‏"‏ مع إقامته ثماني عشرة يدلّ دلالة واضحة على أن المقيم من غير نية الإقامة يصدق عليه إسم المسافر، ويؤيّده حديث‏:‏ ‏"‏إنما الأعمال بالنيات‏"‏، وهذا الحديث حسنه الترمذي، وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف‏.‏

قال ابن حجر‏:‏ وإنما حسن الترمذي حديثه لشواهده ولم يعتبر الاختلاف في المدة كما علم من عادة المحدثين من اعتبارهم الاتفاق على الأسانيد دون السياق‏.‏اهـ‏.‏ وعلي بن زيد المذكور أخرج له مسلم مقرونًا بغيره‏.‏

وقال الترمذي في حديثه في السفر‏:‏ حسن صحيح، وقال‏:‏ صدوق ربما رفع الموقوف ووثقه يعقوب بن شيبة‏.‏

وقال بعض أهل العلم‏:‏ اختلط في كبره، وقد روى عنه شعبة، والثوري، وعبد الوارث، وخلق‏.‏

وقال الدارقطني‏:‏ إنما فيه لين، والظاهر أن قول الدارقطني هذا أقرب للصواب فيه، لكن يتقى منه ما كان بعد الإختلاط‏.‏اهـ‏.‏ إلى غير ذلك من الأدلّة على أن الإقامة دون نيتها لا تقطع حكم السفر، ‏"‏ وقد أقام الصحابة برامهرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة ‏"‏‏.‏ رواه البيهقي بإسناد صحيح، وتضعيفه بعكرمة بن عمار مردود بأن عكرمة المذكور من رجال مسلم في ‏"‏ صحيحه ‏"‏‏.‏

وقد روى أحمد في ‏"‏مسنده‏"‏ عن ثمامة بن شراحيل عن ابن عمر أنه قال‏:‏ ‏"‏كنت بأذربيجان لا أدري قال‏:‏ أربعة أشهر أو شهرين فرأيتهم يصلون ركعتين ركعتين‏"‏، وأخرجه البيهقي‏.‏

وقال ابن حجر في ‏"‏التلخيص‏"‏‏:‏ إن إسناده صحيح‏.‏اهـ‏.‏

ومذهب مالك الفرق بين العسكر بدار الحرب فلا يقصر وبين غيره فيقصر بنية إقامة أربعة أيام صحاح‏.‏

الفرع الخامس‏:‏ إذا تزوج المسافر ببلد أو مر على بلد فيه زوجته أتم الصلاة؛ لأن الزوجة في حكم الوطن، وهذا هو مذهب مالك، وأبي حنيفة، وأصحابهما، وأحمد، وبه قال ابن عباس‏:‏ وروي عن عثمان بن عفان، واحتجّ من قال بهذا القول بما رواه الإمام أحمد وعبد اللَّه بن الزبير الحميدي في ‏"‏مسنديهما‏"‏ عن عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه أنه صلّى بأهل منى أربعًا وقال‏:‏ يا أيها الناس، لمّا قدمت تأهلت بها وإني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏إذا تأهل الرجل ببلده فإنه يصلّي بها صلاة المقيم‏"‏‏.‏

قال ابن القيم في ‏"‏زاد المعاد‏"‏، بعد أن ساق هذا الحديث‏:‏ وهذا أحسن ما اعتذر به عن عثمان، يعني‏:‏ فدي مخالفته النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر في قصر الصلاة في منى، وأعلّ البيهقي حديث عثمان هذا بانقطاعه وأن في إسناده عكرمة بن إبراهيم، وهو ضعيف‏.‏

قال ابن القيم‏:‏ قال أبو البركات بن تيمية‏:‏ ويمكن المطالبة بسبب الضعف، فإن البخاري ذكره في ‏"‏تاريخه‏"‏ ولم يطعن فيه، وعادته ذكر الجرح والمجروحين، وقد نصّ أحمد وابن عباس قبله أن المسافر إذا تزوج لزمه الإتمام، وهذا قول أبي حنيفة، ومالك وأصحابهما‏.‏اهـ‏.‏ منه بلفظه‏.‏

قال مقيده عفا اللَّه عنه‏:‏ الذي يظهر لي، واللَّه تعالى أعلم، أن أحسن ما يعتذر به عن عثمان، وعائشة في الإتمام في السفر أنهما فهما من بعض النصوص أن القصر في السفر رخصة، كما ثبت في ‏"‏ صحيح مسلم ‏"‏ ‏"‏أنه صدقة تصدق اللَّه بها‏"‏‏.‏اهـ‏.‏ وأنه لا بأس بالإتمام لمن لا يشق عليه ذلك كالصوم في السفر ويدلّ لذلك ما رواه هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة‏:‏ ‏"‏ أنها كانت تصلّي أربعًا قال‏:‏ فقلت لها‏:‏ لو صلّيت ركعتين، فقالت‏:‏ يا ابن أختي إنه لا يشقّ عليّ ‏"‏، وهذا أصرح شىء عنها في تعيين ما تأوّلت به، واللَّه أعلم‏.‏

الفرع السادس‏:‏ لا يجوز للمسافر في معصية القصر؛ لأن الترخيص له والتخفيف عليه إعانة له على معصيته، ويستدلّ لهذا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏، فشرط في الترخيص بالاضطرار إلى أكل الميتة كونه غير متجانف لإثم، ويفهم من مفهوم مخالفته أن المتجانف لإثم لا رخصة له والعاصي بسفره متجانف لإثم، والضرورة أشدّ في اضطرار المخمصة منها في التخفيف بقصر الصلاة ومنع ما كانت الضرورة إليه ألجأ بالتجانيف للإثم يدلّ على منعه به فيما دونه من باب أولى، وهذا النوع من مفهوم المخالفة من دلالة اللفظ عند الجمهور لا من القياس خلافًا للشافعي وقوم كما بينّاه مرارًا في هذا الكتاب وهو المعروف بإلغاء الفارق وتنقيح المناط، ويسمّيه الشافعي القياس في معنى الأصل، وبهذا قال مالك، والشافعي، وأحمد وخالف في هذه المسألة أبو حنيفة رحمه اللَّه فقال‏:‏ يقصّر العاصي بسفره كغيره لإطلاق النصوص؛ ولأن السفر الذي هو مناط القصر ليس معصية بعينه، وبه قال الثوري والأوزاعي، والقول الأول أظهر عندي، واللَّه تعالى أعلم‏.‏

‏{‏فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا‏}‏

، إِنَّ الصَّلَواةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَـاباً مَّوْقُوتاً ذكر في هذه الآية الكريمة أن الصلاة كانت ولم تزل على المؤمنين كتابًا، أي‏:‏ شيئًا مكتوبًا عليهم واجبًا حتمًا موقوتًا، أي‏:‏ له أوقات يجب بدخولها ولم يشر هنا إلى تلك الأوقات، ولكنه أشار لها في مواضع أُخر كقوله‏:‏ ‏{‏أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا‏}‏، فأشار بقوله‏:‏ ‏{‏لِدُلُوكِ الشَّمْسِ‏}‏ وهو زوالها عن كبد السماء على التحقيق إلى صلاة الظهر والعصر؛ وأشار بقوله‏:‏ ‏{‏أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ‏}‏ وهو ظلامه إلى صلاة المغرب والعشاء؛ وأشار بقوله‏:‏ ‏{‏وَقُرْآنَ الْفَجْرِ‏}‏ إلى صلاة الصبح، وعبّر عنها بالقرءان بمعنى القراءة؛ لأنها ركن فيها من التعبير عن الشىء بإسم بعضه‏.‏

وهذا البيان أوضحته السنة إيضاحًا كليًا، ومن الآيات التي أشير فيها إلى أوقات الصلاة كما قاله جماعة من العلماء، قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ‏}‏، قالوا‏:‏ المراد بالتسبيح في هذه الآية الصلاة، وأشار بقوله‏:‏ ‏{‏حِينَ تُمْسُونَ‏}‏ إلى صلاة المغرب والعشاء، وبقوله‏:‏ ‏{‏وَحِينَ تُصْبِحُونَ‏}‏ إلى صلاة الصبح، وبقوله‏:‏ ‏{‏وَعَشِيًّا‏}‏ إلى صلاة العصر، وبقوله‏:‏ ‏{‏وَحِينَ تُظْهِرُونَ‏}‏ إلى صلاة الظهر‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ‏}‏، وأقرب الأقوال في الآية أنه أشار بطرفي النهار إلى صلاة الصبح أوله وصلاة الظهر والعصر آخره أي‏:‏ في النصف الأخير منه وأشار بزلف من الليل إلى صلاة المغرب والعشاء‏.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
تفسير اضواء البيان فى ايضاح القران بالقران
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 2 من اصل 2انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2
 مواضيع مماثلة
-
» تفسير سوره القيامه
» تفسير سوره المدثر
» تفسير الفاتحه
» تفسير سوره نوح
» تفسير سوره الفجر

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
نور الهدى :: منتدى القران الكريم :: منتدى تفسير القران-
انتقل الى: